هل يقتل الذكاء الاصطناعي شبكة الإنترنت ؟
بين جفاف الزيارات وخسائر الناشرين ، صراع وجودي يتصاعد خلف كواليس ثورة البحث الجديده

في مطلع العام الماضي، بدأ ماثيو برينس، المدير التنفيذي لشركة Cloudflare، يتلقى مكالمات متوترة من رؤساء كبرى شركات الإعلام. لم تكن الشكاوى عن هجمات إلكترونية من كوريا الشمالية أو الصين، بل عن عدو جديد وغير متوقع: الذكاء الاصطناعي.
التهديد لم يكن فيروسات أو قرصنة، بل التحوّل السريع في سلوك المستخدمين عبر الإنترنت. ملايين المستخدمين بدأوا يستعيضون عن محركات البحث التقليدية بالحوارات النصية مع روبوتات مثل ChatGPT، متلقين إجابات فورية بدلاً من روابط لزيارة المواقع. وبهذا، بدأت حركة الزيارات تتبخر من مواقع الأخبار والموسوعات والمنتديات. ومع جفاف “الزيارات البشرية”، تنهار معادلة الاقتصاد الرقمي التي قام عليها الويب لعقود.
وداعًا للزوار… وأهلًا بالإجابات الجاهزة
منذ إطلاق ChatGPT في أواخر 2022، دخل الملايين في نمط جديد من البحث. تشير تقديرات “OpenAI” إلى أن عدد مستخدمي ChatGPT بلغ نحو 800 مليون، مما جعله التطبيق الأكثر تحميلًا على متجر أبل. بل إن شركة أبل نفسها أعلنت تراجع استخدام محرك بحث Safari لأول مرة في أبريل الماضي، لصالح استفسارات تُطرح على الذكاء الاصطناعي.
ومع هذا التحول، تتبخر الزيارات نحو المواقع المرجعية. بيانات موقع Similarweb أظهرت تراجعًا عالميًا في زيارات البحث البشري بنسبة 15% خلال عام. الفئات الأكثر تضررًا كانت تلك المعروفة بالإجابة عن الاستفسارات: مواقع التعليم (-10%)، والمراجع (-15%)، والصحة (-31%).
جوجل تحت الضغط… ومواقع المحتوى في ورطة
محرك البحث العملاق Google لم يقف مكتوف الأيدي، بل أضاف خصائص “الذكاء الاصطناعي التوليدي” إلى واجهته، عبر ميزة “نظرة شاملة” ثم “وضع الذكاء الاصطناعي”، الذي يقدّم إجابة مباشرة قبل عرض النتائج.
لكن المفارقة أن هذه الإجابات تُولّد من محتوى المواقع، دون أن يحصل أصحابها على أية زيارات أو أرباح. تشير التقديرات إلى أن 69% من الاستفسارات الإخبارية تنتهي دون أي نقرة على الروابط، ارتفاعًا من 56% قبل عام. أي أن 7 من كل 10 مستخدمين يحصلون على الإجابة دون مغادرة جوجل.
هل يختفي الإنترنت المفتوح كما نعرفه؟
يرى كثير من روّاد المواقع أن ما يحدث ليس مجرد أزمة مرور رقمي، بل تهديد وجودي. يقول الرئيس التنفيذي لموقع Stack Overflow:
“الذكاء الاصطناعي يخنق الإنترنت… ويقلل من الأسئلة والمشاركات في المجتمعات التفاعلية”.
كما عبّر مسؤولو Wikipedia عن قلقهم من أن تقديم إجابات مُولّدة دون نسب المصدر يعيق المستخدمين عن الوصول للمعلومة الأصلية أو المساهمة فيها.
الحلول الحالية: بين “ال wooing and suing”
بعض المؤسسات الكبرى اتجهت إلى صفقات ترخيص للمحتوى، أو إلى رفع دعاوى قضائية ضد شركات الذكاء الاصطناعي. شركة News Corp مثلًا عقدت صفقة مع OpenAI، وتُقاضي شركة “Perplexity”. نيويورك تايمز تقاضي OpenAI أيضًا، رغم توقيعها اتفاقًا منفصلًا مع أمازون.
لكن هذه الحلول محدودة المدى. المحاكم الأمريكية تميل حاليًا لصالح شركات الذكاء الاصطناعي، معتبرة استخدام المحتوى في تدريب النماذج ممارسة مشروعة ضمن “الاستخدام العادل”. الرئيس ترامب أقال مؤخرًا رئيسة مكتب حقوق النشر بعد اعتراضها على هذا التوجه، في إشارة سياسية داعمة للتكنولوجيا على حساب حقوق الملكية.
محاولات لفرض رسوم على الزواحف الرقمية
بعض الشركات تحاول إنشاء أدوات لتحصيل الرسوم من “زواحف الذكاء الاصطناعي”. شركة Cloudflare، التي تدير البنية التحتية لـ20% من الإنترنت، بدأت تتيح لمواقعها التحكم في وصول روبوتات الذكاء الاصطناعي، بل وتختبر نظامًا يفرض رسومًا مقابل “الزحف”.
هناك أيضًا مبادرات مثل Tollbit، التي توصف بأنها “جدار دفع للروبوتات”، وتسمح للمواقع بفرض رسوم على المحتوى بحسب حداثته أو نوعه. وخلال الربع الأول من 2025، نفذت الشركة 15 مليون عملية “دفع مصغر” نيابة عن أكثر من ألفي موقع، بينها أسوشيتد برس ونيوزويك.
في نموذج آخر، تقترح شركة ProRata بقيادة بيل غروس أن تُوزع عوائد الإعلانات المصاحبة لإجابات الذكاء الاصطناعي على المواقع التي ساهمت بمحتواها في تكوين هذه الإجابات. منصة Gist.ai التي أسسها بدأت مشاركة العوائد مع أكثر من 500 ناشر، في تجربة تأمل أن تصبح معيارًا عالميًا.
الويب لم يمت… لكنه يتغير جذريًا
رغم كل هذه المخاوف، لا يرى الجميع أن الإنترنت يحتضر. بحسب “جوجل”، فإن عدد المواقع ارتفع بنسبة 45% خلال عامين، نتيجة لتسهيل الذكاء الاصطناعي عمليات النشر والإنشاء.
لكن السؤال الأكبر لا يزال قائمًا:
من سيُموّل محتوى الإنترنت إذا لم يعد أحد يزوره؟
ومع هيمنة محركات البحث الذكية، هل سيتحول الإنترنت من ساحة تفاعلية ومفتوحة إلى مجرد بنك بيانات ضخم تُفرغ محتواه روبوتات مدفوعة بالذكاء الصناعي؟
الإجابة ليست مؤكدة بعد. لكن ما يبدو واضحًا هو أن البقاء في هذا العصر الرقمي لن يكون لمن ينتج أفضل محتوى فقط، بل لمن يجد نموذجًا عادلًا ومستدامًا للحصول على نصيبه من قيمة الذكاء الاصطناعي.