الاقتصاد

فايننشال تايمز: تصدير الدولار يصيب أمريكا بـ”لعنة الموارد”.. والنتيجة نهم سياسي

لعقود، نظر العالم إلى امتلاك الولايات المتحدة للدولار كعملة احتياطية عالمية باعتباره امتيازًا استثنائيًا منحها تفوقًا غير مسبوق على باقي الدول.

فمن خلال إصدار سندات الخزانة والديون المقومة بالدولار، استطاعت واشنطن تمويل حروبها، وبرامجها الاجتماعية، وتحفيز اقتصادها دون القلق من الضغوط التضخمية المعتادة. لكن، وكما يحذر الكاتب الأمريكي بريندان غريلي، قد يكون هذا الامتياز قد تحول تدريجيًا إلى عبء اقتصادي وسياسي، على غرار ما يعرف اقتصاديًا بـ”المرض الهولندي” — الظاهرة التي تصيب الدول التي تعتمد بشكل مفرط على مورد تصديري واحد يضعف بقية قطاعات الاقتصاد، ويشوّه السياسات المحلية.

فما بدأت به الولايات المتحدة في بداية الألفية كاستغلال ذكي لشهية العالم للدولار، ربما تحول الآن إلى فخ ذاتي، حيث بات تصدير الدين الأمريكي يشبه تصدير الغاز في هولندا في الستينات: مورد يدر عوائد ضخمة على الورق، لكنه يعمّق اختلالات هيكلية ويمنح القوى النافذة في الداخل ذريعة لنهب الفوائض دون استثمار فعلي في مستقبل البلاد.

من المرض الهولندي إلى “الداء الأمريكي”

 

في ستينيات القرن الماضي، اكتشفت هولندا احتياطيات هائلة من الغاز في بحر الشمال، ما أدى إلى طفرة في عائدات التصدير. لكن المفارقة كانت أن هذا الازدهار أسهم في ارتفاع قيمة العملة المحلية، ما أدى إلى تدهور تنافسية الصناعات الهولندية، خاصة في مجالات مثل صناعة الأحذية والملابس. وفي نهاية العقد، كان قطاع التصنيع قد تراجع بشكل ملحوظ، رغم الفوائض في الإيرادات. هكذا وُلد مصطلح “المرض الهولندي”.

وبالمقارنة، فإن ما تصدّره أمريكا ليس مورداً طبيعياً، بل الدولار نفسه، عبر أدوات الدين والأسواق المالية. فمنذ عام 2000، تحولت واشنطن إلى “مُصدر للدين”، مستفيدة من مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية. ومثل الغاز الهولندي، يبدو هذا المورد مغريًا في البداية، لكنه يولّد آثاراً جانبية عميقة على الاقتصاد المحلي والسياسة العامة.

الدين الأمريكي: مورد قابل للتصدير

 

يطرح غريلي رؤية مغايرة لتصنيف الاقتصادات العالمية: فبينما يُنظر إلى المرض الهولندي كأزمة تخص الدول النامية المعتمدة على صادرات النفط أو الغاز، يرى أن الولايات المتحدة، رغم كونها دولة متقدمة، أصبحت مثالًا آخر لهذه الظاهرة. الفرق الوحيد هو أن “موردها” ليس ماديًا، بل ورقي – الدولار.

طوال عقدين، لبّت أمريكا الطلب العالمي المتزايد على الأصول المقومة بالدولار، وموّلت ذلك عبر التوسع في الاستدانة. وما يُبرر هذه الممارسة في الداخل الأمريكي هو “الطلب العالمي على الدولار”، لكنها في جوهرها تضع الاقتصاد في دورة غير مستدامة: دين يمول دينًا، وفوائض تذهب إلى جيوب الأقوى سياسيًا، وليس إلى البنية التحتية أو التعليم.

الامتياز يتحول إلى عبء

يُثار جدل مستمر حول ما إذا كان امتلاك الولايات المتحدة لعملة العالم هو “امتياز باهظ” أم “عبء باهظ”. وفي هذا السياق، يقدّم غريلي زاوية مختلفة، مستندًا إلى أبحاث سابقة حول الدول المعتمدة على صادرات الموارد الطبيعية. هذه الدراسات بيّنت أن عائدات الموارد تميل إلى تغذية الاستهلاك القصير الأجل بدلاً من الإنتاجية طويلة الأجل، خاصة حين تكون المؤسسات ضعيفة والمجتمع منقسمًا.

وإذا قبلنا بأن أمريكا ليست محصنة ضد هذه الديناميكيات، فإن السؤال يصبح: إلى أي مدى تخضع مؤسساتها السياسية لنفس “أثر النهم” الذي دمّر اقتصادات نامية مثل نيجيريا وفنزويلا؟ الإجابة، بحسب الكاتب، قد تكون صادمة.

“أثر النهم”: حين يلتهم الأقوياء كل شيء

في عام 1999، طوّر الاقتصاديان آرون تورنيل وفيليب لاين مفهوم “أثر النهم” (voracity effect)، والذي يفترض أن عائدات الموارد تُحفّز جماعات النفوذ على التنافس المحموم لنهب نصيبها من العوائد، ما يؤدي إلى تآكل الاستثمار في البنية الإنتاجية. في الدول ذات المؤسسات الضعيفة، ينتصر النهم، وتُهدر الثروات في الإنفاق الريعي.

وإذا أسقطنا هذا النموذج على الولايات المتحدة، فإن مؤشراته باتت واضحة: الإنفاق الفيدرالي الضخم، التحفيزات الواسعة النطاق، وقرارات مثل مشروع “الفاتورة الجميلة والكبيرة” لإدارة ترامب – كلها تحمل بصمة “نهم الأقوياء” أكثر من “رؤية وطنية للنهضة”.

عندما تصبح السياسة أداة للاستحواذ

مشروع ترامب الضخم، الذي كلّف 3.4 تريليون دولار على مدى عقد، وذهب معظمه لفئات ثرية بالفعل، يمثل نموذجًا صارخًا لسياسة تقوم على منطق: “نفعل ذلك لأننا نستطيع”. لم تُبذل محاولات حقيقية لإقناع الناس بأن خفض الضرائب سيُفضي إلى نمو إنتاجي، بل جرى تمرير القانون بقوة النفوذ وحدها. وهذا، كما يشير غريلي، هو جوهر “أثر النهم” كما عرفناه في الاقتصادات الريعية.

المؤسسات الأمريكية: أقل متانة مما نعتقد

خلافًا للصورة التقليدية عن صلابة النظام السياسي الأمريكي، يُحذر الكاتب من أن مؤسساته لا تبدو قادرة على ضبط شهيّة النخبة للإنفاق الريعي. لم تُواجه أمريكا هذا التحدي منذ بداية الألفية، وحين ستضطر إلى مواجهته، سيكون ذلك في ظل سياق اقتصادي وسياسي أكثر هشاشة. وفي هذا الإطار، يقترح غريلي إطارًا جديدًا مكمّلًا لأثر النهم: “أثر الندرة” (paucity effect)، الذي قد يُصيب أمريكا إذا ما تراجعت شهية العالم للدولار فجأة.

ماذا لو انتهى الطلب على الدولار؟

الدولار فقد قرابة 8% من قيمته في الأشهر الستة الماضية. وقد يكون هذا بداية تحوّل أعمق. فإذا بدأت الدول في التنويع خارج الدولار، فإن قدرة أمريكا على تمويل نفسها بيسر ستتقلص، وسيتحوّل “الامتياز الباهظ” إلى “عبء ثقيل” بكل معنى الكلمة. وعندها، سيتعين على النخب السياسية التعامل مع واقع جديد من الندرة، لا الوفرة، مما قد يكشف الهشاشة الحقيقية للنموذج الأمريكي المعتمد على الاستدانة.

نهاية الأسطورة: أمريكا ليست استثناءً

الخلاصة التي يطرحها غريلي صادمة لكنها واقعية: على العالم أن يتوقف عن التعامل مع الولايات المتحدة كما لو أنها دولة “سحرية” لا تخضع لقوانين الاقتصاد. فالسياسات التي تخلق اختلالات هيكلية في نيجيريا أو المكسيك، ستؤدي إلى نفس النتائج في واشنطن إذا توفرت الظروف ذاتها.

والمرض الهولندي، الذي لطالما حُصر في الدول المصدّرة للنفط، قد يكون قد وجد الآن ضحية جديدة: دولة تُصدّر الدولار وتستهلك مستقبلها السياسي معه.

أقرا أيضا

الطحاوي: مصر تسير بخطى ثابتة نحو التحول إلى مركز صناعي إقليمي ( خاص)

نوران الرجال

نوران الرجال باحثة اقتصادية وكاتبة صحفية متخصصة في شؤون النقل البحري والاقتصاد البحري، وتشغل عضوية لجنة النقل البحري بالجمعية العمومية العلمية للنقل. كما تتولى منصب المدير العام لمركز العربي للأبحاث البحرية والاستراتيجية، حيث تسهم في صياغة الرؤى وتقديم الدراسات الداعمة لتطوير قطاع النقل البحري في المنطقة العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى