عودة الكواليس النووية: الذكرى الثمانون تنذر بانهيار النظام العالمي
عودة شبح القنبلة: 80 عامًا على هيروشيما وناغازاكي

في السادس من أغسطس عام 1945، اجتاحت السماء فوق هيروشيما ومضة بيضاء قاتلة، تبعتها نار حارقة ورياح مدمّرة، ثم أمطار سوداء ومبانٍ منهارة وأجساد متفحمة. بعد ثلاثة أيام، حلّ المصير ذاته بناغازاكي. لم تكن المأساة في لحظتها فقط، بل في الزمن الذي تلاها. فالناجون، أو ما يُعرف في اليابان بـ”هيباكوشا”، عاشوا عقودًا من الألم الجسدي والنبذ الاجتماعي، حيث التهمت الإشعاعات أجسادهم، وجرحت الوصمة كرامتهم. اليوم، ومع مرور 80 عامًا على القصف الذري، لا تزال الجراح مفتوحة، ولكن الأخطر أن شبح القنبلة يعود، لا من الذاكرة وحدها، بل من الحاضر السياسي المضطرب.
التحول نحو عصر نووي ثالث
في عام 2009، بدا أن العالم يسير نحو تراجع دور الأسلحة النووية، خاصة مع حديث الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عن حلم “عالم خالٍ من السلاح النووي”. لكن اليوم، وفق تحليل الإيكونوميست، نحن أمام “عصر نووي ثالث”، أكثر فوضوية من سابقيه، حيث تلاشت قواعد الردع القديمة، وانقلب ميزان التحكم بانتشار السلاح النووي. تهديدات روسيا المتكررة باستخدام قنابل نووية في حربها ضد أوكرانيا، وانهيار معاهدات ضبط التسلح مثل “نيو ستارت”، وتنامي نزعات التسلح لدى دول مثل بولندا والسعودية وكوريا الجنوبية، كل ذلك يعيد تشكيل مشهد مرعب من التسلح غير المنضبط.
نهاية الردع الأخلاقي وصعود التهديدات التويتية
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ساد ما يُعرف بـ”التابو النووي”—وهو ذلك الإجماع الأخلاقي العالمي على استحالة استخدام القنبلة مرة أخرى. لكن في السنوات الأخيرة، بدأت ملامح هذا التابو تتلاشى. لم يعد السلاح النووي مادة للمفاوضات السرية فحسب، بل أصبح مادة للتهديدات العلنية، حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي. قبل أيام فقط، تبادل رئيس الولايات المتحدة ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي تصريحات نووية على المنصات الرقمية كما لو كانوا مراهقين يتقاذفون الشتائم، لا قادة أمم تملك أدوات إبادة جماعية.
مأزق اليابان: بين الذاكرة الوطنية والردع الأميركي
اليابان، البلد الوحيد الذي تعرض لهجوم نووي في التاريخ، يعيش اليوم معضلة أخلاقية واستراتيجية. فمن جهة، ترى طوكيو أن لديها مسؤولية أخلاقية للدفع نحو نزع السلاح النووي. ومن جهة أخرى، تعتمد في أمنها القومي على “المظلة النووية” الأميركية، خاصة مع جيران مسلحين نوويًا مثل الصين وكوريا الشمالية وروسيا. في الذكرى الثمانين لهيروشيما، تعهد رئيس الوزراء الياباني إيشيبا شيغيرو بـ”العمل بكل قوة من أجل عالم خالٍ من السلاح النووي”، لكنه رفض، كما في السابق، التوقيع على معاهدة الأمم المتحدة لحظر الأسلحة النووية، ما أثار خيبة أمل بين أوساط الهيباكوشا.
الذاكرة في خطر: الهيباكوشا يرحلون وصمتهم يترك فراغًا
من أصل نحو 400 ألف ناجٍ معترف بهم رسميًا في أعقاب القصف، لم يتبقَ اليوم سوى أقل من 100 ألف شخص، معظمهم في متوسط عمر يبلغ 86 عامًا. ومع اقتراب رحيل آخر الناجين، تخشى اليابان والعالم من فقدان الشهادات الحية التي لطالما وقفت حائط صد أخلاقي ضد إعادة انتشار السلاح النووي. لهذا السبب، تسعى مدينتا هيروشيما وناغازاكي لتدريب “ورثة الذاكرة”—رواة جدد يتبنون قصص الناجين وينقلونها للأجيال القادمة. لكنها مهمة صعبة، لأن الرعب الذي عايشه أولئك الناس لا يمكن نسخه أو تمثيله.
العالم يتغير… إلى الأسوأ
مع تصاعد الخطاب القومي، وانهيار المعاهدات، وصعود قوى دولية لا تعبأ بالأعراف أو بالتاريخ، يبدو أن العالم يسير نحو فقدان آخر خطوطه الحمراء. الكابوس النووي الذي أرعب البشرية لعقود لم يعد مجرد صفحة من الماضي، بل تهديد فعلي يعود بحلّة جديدة في عالم غير مستقر، تُنذر فيه كل أزمة بأن تكون شرارة لحرب لا نجاة منها.