علوم وتكنولوجيا

مهمة إنقاذ نسائية على المريخ: حين تتحول الأوبرا إلى مرآة لعالم الرجال في الفضاء

منذ عقود، لم يكن المريخ مجرد جرم سماوي أحمر يدور في مدار بعيد عن الأرض، بل كان رمزًا طموحيًا يتنازعه الخيال العلمي والوعود التكنولوجية. ومع تصاعد هوس البشرية بغزو الكواكب، باتت أحاديث المريخ مرآة تعكس هواجس عصرنا، من صراع السلطة إلى الهيمنة الذكورية إلى تكنولوجيا تُصمم لمصلحة قلّة تتحكم بالكوكب الأزرق. في هذا السياق، تبرز أوبرا “Mars” للمؤلفة الأيرلندية جينيفر والش كعمل فني فريد، لا يكتفي بتقديم تجربة سمعية وبصرية عن الفضاء، بل يطرح تساؤلات أخلاقية وفلسفية عن المصير الإنساني على كوكب يعاد تشكيله وفق أهواء أصحاب المليارات.

المريخ كمشروع أيديولوجي لا ككوكب بعيد

لا تتعامل الأوبرا مع المريخ بوصفه مجرد مسرح جديد للمغامرات الفضائية، بل كمشروع أيديولوجي يُعاد تعريفه وفق مصالح النخب التكنولوجية. منذ صور “مارينر 4” في الستينيات التي قضت على أوهام الحياة النباتية في الكوكب، وحتى تصريحات الملياردير بيتر ثيل مؤخرًا باعتبار المريخ مشروعًا سياسيًا أكثر منه علميًا، تتبدى صورة الكوكب الأحمر كموقع يتنازعه الجدل حول السيطرة، والإقصاء، وإعادة إنتاج استعمار جديد تحت قناع الاكتشاف العلمي. هنا، لا يصبح الحديث عن السفر للمريخ أمرًا بريئًا، بل فعلًا سياسيًا يحمل في طياته كل رموز السيطرة الذكورية والاقتصادية التي تُعيد إنتاج أنفسها.

موسيقًى من مراحيض الفضاء وصوت الشفق القطبي

واحدة من أجرأ أفكار الأوبرا أنها لا تكتفي بالسرد الرمزي أو الفلسفي، بل تستثمر في بنية الصوت نفسها لتحاكي تجربة العيش في بيئة مريخية. استخدمت والش تسجيلات حقيقية من المرحاض في محطة الفضاء الدولية، ومن أصوات الرياح الشمسية والضجيج الميكانيكي لصواريخ الإقلاع. الأوبرا لا تسعى إلى إبهار سمعي فقط، بل تصنع واقعًا صوتيًا يخترق تصور المستمع عن الحياة خارج الأرض، ويجعل تجربة الاستماع ذات طابع فيزيائي ونفسي في آن. الموسيقى هنا ليست خلفية، بل مكوّن درامي يُحاكي الاضطراب الداخلي لرواد فضاء يكافحون للنجاة في واقع لا يشبه أحلامهم.

بطلات فضاء يواجهن ديستوبيا مليارديرية

في قلب الأوبرا تقف أربع نساء – سفيتلانا، سالي، جوديث، وفالنتينا – كل واحدة منهن تحمل اسمًا لامرأة رائدة في تاريخ الفضاء الحقيقي. على متن المركبة “باكمينستر”، ينطلقن في مهمة بحث عن المياه لإنقاذ مستعمرة مريخية ناشئة. لكن ما إن يصلن، حتى يكتشفن أن المهمة تعرضت لعملية استحواذ عدائية من شركة يديرها ملياردير ليبرتاري يُدعى “أكسل بارشمنت”. في هذه اللحظة، تنقلب الرواية من رحلة علمية إلى صراع وجودي بين فريق نسائي مؤمن بالمشاركة والعدالة، وقوة ذكورية تسعى إلى تحويل المريخ إلى شركة خاصة عائمة في الفراغ.

 

المرأة في الفضاء… أكثر من تمثيل رمزي

الأوبرا لا تستخدم بطلاتها لمجرد تمثيل رمزي للمساواة، بل تصوغ من وجودهن خطابًا مقاومًا لأشكال متعددة من السلطة. فإلى جانب صراعهن مع احتكار الشركات، تواجه البطلات أيضًا العزلة، الأسئلة الوجودية، وضغط البُعد عن الأرض، في بيئة يُمنع فيها التواصل اللحظي مع الأهل أو الأحبة بسبب تأخر الإشارات. يصبح الفضاء هنا مرآة داخلية تعكس هشاشة الإنسان، وهشاشة النساء على وجه الخصوص في مواجهة منظومة ذكورية تتسلل حتى إلى المجرات. ومع ذلك، لا تُقدَّم الشخصيات كضحايا بل كمبادرات، مقاتلات، يحاولن إعادة تعريف شكل المستقبل بمفردهن.

ذكاء اصطناعي وعدو على هيئة موسيقى

الأوبرا تسخر من استحواذ الذكاء الاصطناعي على حياتنا، وتمنحه شخصية باسم “أرابيلا”، الذكاء الصناعي المصاحب للرحلة. ولكن السخرية الأكبر تظهر في شخصية الملياردير الشرير، الذي وصفه الكاتب مارك أونيل – شريك والش في الكتابة – بأنه تجسيد موسيقي لـ”الـ EDM السيئ”، نوع من الموسيقى الإلكترونية الذي يرمز في العرض إلى الفراغ الثقافي والضجيج الذكوري المتصاعد. من خلال استخدام الخوارزميات الموسيقية لتوليد أصوات الشخصية الشريرة، تعيد الأوبرا توظيف أدوات السلطة الرقمية نفسها ضدها، في مفارقة فنية مثيرة تجمع بين الجدية والتهكم.

من تكنولوجيا الإنجاب إلى إعادة الاستعمار

البحث الذي أجرته والش وشريكها لم يقتصر على الموسيقى أو الفلسفة، بل غاص في أدق تفاصيل الحياة المستقبلية، مثل إمكانية الإنجاب في جاذبية مريخية، أو آليات الحياة اليومية داخل المركبة. هذه التفاصيل العلمية تتحول إلى مكونات درامية تسأل: هل سيعيد البشر استعمار المريخ بالمنطق نفسه الذي استعمروا به الأرض؟ هل ستُعاد صياغة البنى الذكورية والسلطوية هناك؟ أم أن الفرصة متاحة لبناء حضارة بديلة، أكثر عدلًا، وأكثر اتساعًا للآخر؟

الأمل في زمن الأثرياء المسيطرين

رغم أن الأوبرا مشبعة بالهواجس المعاصرة، إلا أنها لا تغرق في التشاؤم. في النهاية، تختار الشخصيات المقاومة بدلًا من الاستسلام، وتُركّز الأوبرا على القوة الجماعية كبديل عن الطغيان الفردي. في عالم يبدو وكأنه يُعاد تشكيله وفق أهواء حفنة من أصحاب الثروات، تبقى رسالة العمل واضحة: لا خلاص فرديًا، بل إنقاذ جماعي، حتى ولو كان على بعد 140 مليون ميل من الأرض. في خضم سباق الهيمنة على الكواكب، تُعلن الأوبرا أن الصوت، والموسيقى، والتعاون، ربما تكون أدوات النجاة الحقيقية.

اقرأ أيضاً:

ترامب يعلن الحرب على علوم المناخ: تداعيات مذهلة تهدد البشرية

يارا حمادة

يارا حمادة صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى