الايكونوميست: كيف نرصد العبقرية؟

في زمن تتسارع فيه الابتكارات بفعل الذكاء الاصطناعي، تبدو المفارقة صارخة: بينما تُضخ المليارات في أشباه الموصلات والبنية التحتية التكنولوجية، يظل الاستثمار في العقول البشرية ــ أي في الموهبة والعبقرية ــ متأخرًا. قصة الشاب البوسني “إرفين ماتيتش”، الذي حصل على ميداليتين في الأولمبياد الدولي للرياضيات لكنه لم يستطع الالتحاق بجامعة أكسفورد بسبب تكاليفها الباهظة، ليست سوى مثال واحد على ضياع كثير من المواهب التي كان من الممكن أن تغير مسار العلم والتكنولوجيا. هنا يتجلى ما يسميه الاقتصاديون بـ”الآينشتاينات المفقودين”: عقول لم تُكتشف أو لم تُمنح الفرصة الكافية لتزدهر.
سباق عالمي على العقول النادرة
تتعامل الحكومات مع المواهب الفائقة باعتبارها موردًا استراتيجيًا نادرًا. الصين عبر برنامج “آلاف المواهب” تسعى لاستعادة علمائها المهاجرين، بينما تطرح الولايات المتحدة تأشيرات خاصة مثل “O-1A” لجذب الأفراد ذوي القدرات الاستثنائية. اليابان خصصت 700 مليون دولار لاستقطاب الباحثين، والاتحاد الأوروبي أطلق مبادرة “اختر أوروبا” ليجعلها مركزًا عالميًا للعلماء. ومع ذلك، يظل التركيز الأكبر على استقطاب “النجوم” الحاليين، لا على إنتاج أجيال جديدة من العباقرة.
الشركات والرهان على الباحث الفائق
في القطاع الخاص، ارتفعت قيمة “العقول الفذة” إلى مستويات غير مسبوقة. شركات التكنولوجيا العملاقة تتعامل مع بعض الباحثين كما لو كانوا استثمارات بمليارات الدولارات. الفكرة أن بعض الأفراد قادرون على دفع الحقول العلمية قفزات هائلة، كما فعل “جيمس وات” في الثورة الصناعية، أو “كاتالين كاريكو” التي مهدت لأبحاث لقاحات “mRNA”. غير أن الاعتقاد بأن العرض ثابت وأن العبقرية محصورة في قلة قليلة قد يكون مضللًا، إذ أن كثيرًا من المواهب تضيع ببساطة بسبب غياب الفرص.
جغرافيا الموهبة: الفجوة بين الشمال والجنوب
تُظهر الأرقام أن 90% من شباب العالم يعيشون في الدول النامية، لكن معظم جوائز نوبل تذهب إلى أمريكا وأوروبا واليابان. عوامل المكان والدخل تلعب دورًا حاسمًا: فالأطفال من الأسر الغنية في أمريكا أكثر احتمالًا بعشر مرات أن يصبحوا مخترعين مقارنة بنظرائهم من الأسر متوسطة أو منخفضة الدخل. هذا يعكس أن الجغرافيا والطبقة الاجتماعية قد تحجبان فرصًا حقيقية لظهور “آينشتاينات” جدد.
كيف يمكن رصد العبقرية في وقت مبكر؟
المراهقة تبدو المرحلة الأكثر حسمًا لاكتشاف المواهب. مسابقات مثل الأولمبياد الدولي للرياضيات أثبتت أنها مؤشر قوي على مستقبل المشاركين، حيث إن نسبة معتبرة من الفائزين يحققون لاحقًا إنجازات علمية كبرى. في المقابل، يظهر أن المواهب من الدول الفقيرة رغم حصولها على نفس الدرجات غالبًا لا تواصل المسار البحثي مثل نظرائهم من الدول الغنية. هذه الفجوة تكشف الحاجة إلى سياسات ممنهجة لاكتشاف المواهب ودعمها في سن مبكرة.
الرياضة نموذج ملهم
رياضات مثل البيسبول وكرة السلة طورت أنظمة “الانتقاء المبكر” عبر شبكات كشف المواهب والأكاديميات، ما سمح بزيادة عدد اللاعبين الدوليين بشكل لافت. هذا النموذج يطرح سؤالًا مهمًا: لماذا لا يتم تطبيق آليات مشابهة في العلوم والتكنولوجيا لاكتشاف النوابغ حول العالم وتطويرهم في بيئات مناسبة؟
أهمية الإرشاد والبيئة الداعمة
الموهبة وحدها لا تكفي. يحتاج العباقرة إلى مرشدين وأقران أقوياء ليصقلوا قدراتهم. أمثلة تاريخية مثل “جون فون نيومان” الذي تلقى دعمًا من معلمين بارعين، تؤكد دور البيئة الداعمة. دراسات حديثة أيضًا توضح أن وجود نوادٍ ومسابقات محلية في المدارس يزيد من فرص تحول الموهبة إلى مسار أكاديمي أو بحثي متقدم.
أزمة الجامعات الكبرى
المؤسسات التعليمية العريقة مثل أكسفورد وكامبريدج أو MIT تظل بوابات أساسية لرعاية الموهبة، لكنها تواجه أزمة بنيوية: تكاليف باهظة ومنح محدودة جدًا للطلاب الدوليين الموهوبين من خلفيات فقيرة. النتيجة أن كثيرًا من العباقرة المحتملين يتم استبعادهم ببساطة، وهو ما يحرم العالم من عقول كان يمكن أن تسهم في إنجازات علمية وتكنولوجية كبرى.
مبادرات فردية تسد الفجوة
في غياب سياسات حكومية كبرى، تلعب مؤسسات خيرية دورًا محوريًا. برامج مثل Global Talent Fund أو Rise توفر منحًا ودعمًا للمراهقين الموهوبين من دول فقيرة ليكملوا تعليمهم في جامعات عالمية. النتائج الأولية مشجعة، إذ أثبت طلاب هذه المبادرات أنهم قادرون على إنجاز اكتشافات فكرية وعلمية مبكرة.
العبقرية كاستثمار استراتيجي
الدروس المستخلصة من التاريخ واضحة: السباق نحو الريادة العلمية لا يُحسم بالمال فقط، بل بقدرة الدول على اكتشاف المواهب ورعايتها. الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة استقطبت آلاف العلماء الألمان عبر عملية “بلاكليست”، بينما الصين اليوم تراهن على إنتاج أعداد ضخمة من خريجي العلوم والتكنولوجيا. لكن التحدي الأكبر يظل في الاحتفاظ بالموهبة وتوفير بيئة تسمح لها بالازدهار.
خلاصة
ضياع المواهب هو “المحرك المهمل للتقدم البشري”. لو تمكن العالم من إزالة الحواجز التي تمنع بروز العباقرة، لكان بالإمكان تسريع اكتشاف أدوية جديدة، وتحقيق انتقال أسرع إلى الطاقة النظيفة، ودفع حدود الذكاء الاصطناعي إلى آفاق غير مسبوقة. العبقرية ليست مجرد هبة فردية، بل هي استثمار يحتاج إلى بيئة، ودعم، وسياسات تعكس قناعة بأن العقل البشري هو المورد الأكثر قيمة في القرن الحادي والعشرين.