مرأة ومنوعات

مورييل سبارك: الروائية التي ارتدت القفازات لتتعامل مع مشاعرها

مورييل سبارك

 

في إحدى المقابلات الصحفية، سُئلت الروائية البريطانية مورييل سبارك عن طريقتها في كتابة الرواية، فأجابت بلهجة واثقة: “أكتب العنوان، ثم اسمي، ثم أكتب ‘الفصل الأول’… وأكمل”.

كانت إجابتها واضحة وبسيطة—ومليئة بالزيف. فالحقيقة، كما يكشف كتاب “الشرارة الكهربائية” للكاتبة فرانسيس ويلسون، أن كتابة رواية بالنسبة لسبارك لم تكن تمرينًا في السلاسة، بل صراع طويل ومركب مع اللغة، والذاكرة، والحياة نفسها.

أرشيف بحجم برج مراقبة.. لروايات لا تتجاوز الـ200 صفحة

مع أن روايات سبارك قصيرة، فإن أرشيفها الممتد على رفوف بطول 60 مترًا يُخفي العكس تمامًا. وراء كل صفحة مكتوبة، هناك عشرات الرسائل، المسودات، واللحظات غير المكتملة. أرادت الكاتبة أن تبدو أعمالها وكأنها خرجت إلى العالم بسهولة، لكنها كانت تُخفي خلف تلك البساطة المصطنعة فلسفة كاملة في التمويه، وخفة يد أدبية. كتبت سبارك: “لطالما كان هدفي أن أمارس فنون التظاهر والتزييف على القارئ”—وكانت تعني ذلك تمامًا.

امرأة تكتب حياتها كي تضلل من سيكتب عنها

عاشت سبارك تحت ظل مهووس بكتابة سيرتها الذاتية، لكنها لم تكن من المعجبين بتلك المهمة. فحتى قبل وفاتها، كُتبت عنها سيرتان لم تخفِ كراهيتها لهما. حاولت استباق الأمر بكتابة مذكراتها بنفسها، لكنها لم تنجح. والسبب؟ كما اعترفت: “لا يمكنني كتابة شيء حتى أعرف كيف سينتهي”.

ومع أن السيرة الذاتية تتطلب تأملًا صادقًا في بدايات لا تنتهي، فإن سبارك لم تحتمل هشاشة الصدق، فاختارت بدله أسلوبًا روائيًا حتى في وصف نفسها.

من إدنبرة إلى روديسيا: حياة من الفوضى والتجريب

ولدت سبارك في إدنبرة وتلقت تعليمها في مدرسة صارمة ألهمتها لاحقًا روايتها الأشهر The Prime of Miss Jean Brodie. ثم سافرت إلى روديسيا الجنوبية (زيمبابوي حاليًا) لتتزوج رجلاً اتضح لاحقًا أنه غير مستقر عقليًا، حاول القفز من النافذة في إحدى نوباته.

لاحقتها أحداث تبدو وكأنها مقتبسة من رواياتها: قريب يُرسل إلى ملجأ أيتام، زملاء يتحولون إلى جواسيس، أصدقاء بأسماء تبدو مفبركة مثل “لي فرانسيز هاول وين ساكفيل دي مونتمورينسي فون هنري”، وكل من حولها في علاقات حب أو خلافات حول الشعر الحديث.

الكتابة كهوائي يلتقط العالم

في قصة قصيرة، تخيلت سبارك نفسها كطفلة رضيعة تبث موجات إذاعية من سريرها في إدنبرة، تلتقط أحداثًا من العالم أجمع. وقد تكون هذه الصورة أقرب ما يكون إلى حقيقتها الإبداعية.

من حولها كان كبار الأدب البريطاني يتقاطرون للثناء عليها: إيفلين وو وصفها بالقديسة، و.هـ. أودن انبهر بها، وغراهام غرين أرسل لها شيكات وزجاجات نبيذ دعمًا.

لكن في مقابل كل هذا الحضور الأدبي اللافت، كانت عزلتها العاطفية صادمة.

أمومة بالقفازات: أصعب قرارات حياتها

ربما كان القرار الأشد قسوة في حياتها هو تخليها عن ابنها الوحيد. عندما كان في الخامسة من عمره، غادرت روديسيا، وأودعته في مدرسة داخلية كاثوليكية، ثم تخلت عن مربيته أيضًا. كتبت لاحقًا: “كان وداعًا حزينًا”… لكنها كانت تشير إلى المربية، لا الطفل.

فرانسيس ويلسون تلتقط هذه الجملة بسخرية ذكية، وترى أنها تلخص روح سبارك: أناقة، برود، وقرارات صادمة تُتخذ بجملة واحدة.

أسلوبها كحياتها: جمل قصيرة، نهايات مفاجئة، وعواطف محايدة

من قرأ رواياتها يدرك أن البنية النفسية لأسلوبها تنعكس في حياتها: قرارات فجائية بإنهاء علاقات، مشاعر تتعامل معها كما لو كانت أدوات في قصة، لا تجارب حقيقية.

وصفها أحد عشاقها السابقين بأنها “تتعامل مع العاطفة وكأنها ترتدي قفازات مطاطية”—وهي عبارة قاسية، لكنها دقيقة.

“سباركية”: لماذا لا تصبح صفة أدبية؟

مثلما دخلت أسماء مثل ديكنز وأورويل وجويس المعجم بوصفها صفات، فإن اسم سبارك لم يُستخدم كثيرًا كصفة—لكن بعد قراءة هذا العمل اللامع من فرانسيس ويلسون، يبدو أن “سباركيان” يجب أن تصبح كلمة قائمة بذاتها.

فسبارك ليست فقط روائية ذات أسلوب ساخر ومتحكم، بل شخصية معقدة أخفت هشاشتها خلف ستار من التهكم والفطنة، وخلّفت إرثًا لا يزال غامضًا ومغرًيا بالكشف.

اقرأ ايضا

مايكل مادسن… موهبة قاتمة لم تُفك شيفرتها إلا على يد تارانتينو

منةالله خيري

صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى