علوم وتكنولوجيا

هل يمكن ان تنقذ الذكاء الاصطناعي أمريكا من فخ ديونها ؟

الذكاء الاصطناعي: هل يمكن أن يكون المنقذ من أزمة الديون الأميركية؟

في لحظة مفصلية من التاريخ الاقتصادي الأميركي، تلوح التكنولوجيا بوصفها طوق نجاة محتملاً من فخ الديون المتضخمة الذي يهدد استقرار الاقتصاد الأميركي على المدى البعيد. وبينما يثير مشروع “فاتورة ترامب الكبرى” موجة من الانتقادات بسبب كلفته الخيالية، تتجه أنظار البعض إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره الورقة الرابحة التي قد تقلب معادلة التوقعات المالية رأسًا على عقب. ففي ظل توقعات مكتب الميزانية في الكونغرس (CBO) التي تنذر ببلوغ الدين الأميركي 156% من الناتج المحلي بحلول 2055، تبرز فرضية بديلة وأكثر إشراقًا: ماذا لو نجح الذكاء الاصطناعي في رفع الإنتاجية السنوية بنسبة 0.5% فقط؟ الإجابة تحمل احتمالًا بتثبيت الدين عند 113% فقط، دون الحاجة إلى تقشف. فهل نحن أمام بداية عصر جديد في الاقتصاد القائم على التكنولوجيا؟ أم أن هذا التفاؤل محض وهم لا يصمد أمام اختبار التاريخ والواقع؟

التاريخ لا يشهد على قفزات سريعة

رغم الجاذبية البديهية لفكرة أن التكنولوجيا سترفع الإنتاجية وتحسن المالية العامة، إلا أن التاريخ الحديث لا يدعم هذا السيناريو المتفائل. فقد شهد العالم طفرة رقمية بين عامي 1995 و2005 انعكست في نمو الإنتاجية بنسبة 3% سنويًا، قبل أن تنخفض النسبة إلى 1.5% في العقدين التاليين. هذه التفاوتات تظهر أن الابتكار لا يترجم دائمًا إلى عوائد اقتصادية مباشرة أو فورية. حتى الفائز بجائزة نوبل روبرت سولو تساءل ساخرًا في الثمانينيات: “نرى الحواسيب في كل مكان، عدا الإحصاءات الإنتاجية.”

الاعتماد الانتقائي على التكنولوجيا يعيق المردود الجماعي

عامل آخر يقوض التفاؤل هو التباين الواسع بين الشركات والمؤسسات في تبني التكنولوجيا. فكما تشير دراسة لجامعة أكسفورد، لا تعتمد جميع القطاعات على الذكاء الاصطناعي بوتيرة واحدة، ما يجعل أثره الإجمالي على الإنتاجية الوطنية أقل وضوحًا. وعلى المدى القريب، قد تكون المكاسب محصورة في قطاعات محددة أو في شركات عملاقة فقط، بينما تبقى بقية الاقتصاد في مكانه، مما يحد من جدوى هذه المراهنة كحل شامل لأزمة الدين.

التهديد الاجتماعي لتسارع الابتكار

إذا كان هناك من محفز قد يمنع الذكاء الاصطناعي من تحقيق وعوده، فهو الفوضى الاجتماعية التي قد تنتج عن تبنيه واسع دون إطار سياسي واضح. تقارير من البنك الدولي وJPMorgan تشير إلى أن نصف الوظائف الأميركية مهددة بالإلغاء بفعل الأتمتة والذكاء الاصطناعي بحلول 2034. التحولات المماثلة في التاريخ، كالثورة الصناعية، استغرقت عقودًا وكانت مقرونة بإصلاحات شاملة مثل التعليم الإلزامي ونشوء دولة الرعاية. أما اليوم، فيبدو أن الثورة تسير بسرعة غير مسبوقة دون خطة اجتماعية موازية.

الوقت لا ينتظر واشنطن

وفق توقعات JPMorgan، فإن تأثير الذكاء الاصطناعي على الإنتاجية قد يتجلى خلال سبع سنوات فقط، وهي فترة وجيزة مقارنة بتقنيات سابقة مثل الكهرباء أو الإنترنت. ومع غياب سياسات حكومية استباقية على غرار ما تفعله دول مثل سنغافورة، فإن فرص الاستفادة الكاملة من هذه التكنولوجيا تصبح موضع شك. والأخطر من ذلك أن ردود الفعل الاجتماعية قد تؤدي إلى اضطرابات سياسية تجهض أي مكاسب اقتصادية محتملة.

التفاؤل المحسوب في أوساط المستثمرين

رغم هذه المحاذير، لا يزال بعض المستثمرين يرون في الذكاء الاصطناعي فرصة نادرة لمعالجة جذور أزمة الدين. شركات كـGoldman Sachs وPwC تتوقع أن يرفع الذكاء الاصطناعي الناتج المحلي بنسبة 15% إلى 20% بحلول منتصف العقد المقبل. وتعتبر هذه النسب كافية لإحداث فارق جوهري في المسار المالي للولايات المتحدة، إذا ما ترافقت مع سياسات داعمة وتوزيع عادل للمكاسب.

شركات كبرى قد تكون قاطرة النمو الجديد

ما يعزز هذا التفاؤل هو ملاحظة مثيرة من تقرير حديث لشركة McKinsey، تفيد بأن مستقبل النمو الاقتصادي لا يعتمد على المتوسط العام لاعتماد التكنولوجيا، بل على مدى قدرة عدد محدود من الشركات الكبرى على الريادة في هذا المجال. وإذا ما نجحت هذه الشركات في تكثيف استثمارها في الذكاء الاصطناعي وتوظيفه بكفاءة، فقد تؤدي إلى تحول نوعي في الأداء الاقتصادي دون الحاجة إلى انتشار أوسع للتكنولوجيا.

نافذة السياسة لا تزال مفتوحة

رغم أن إدارة ترامب لم تقدم حتى الآن استراتيجية متكاملة لمواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي، فإن الانخراط المتزايد للخبراء التقنيين في واشنطن ومرونة “نافذة أوفرتون” السياسية الأميركية قد يفتحان الباب أمام تغييرات مفاجئة. في حال تصاعد الضغط الشعبي أو ظهرت آثار سلبية مفاجئة، قد يضطر صناع القرار إلى التحرك، وربما يتبنون سياسات غير متوقعة كانت حتى وقت قريب مستبعدة.

الواقعية النقدية في مواجهة الحماسة التكنولوجية

مع كل هذا الحديث، يحذر بعض الاقتصاديين من الانجرار خلف أوهام تكنولوجية غير مثبتة. فهم يرون أن الأثر الفعلي على المديونية الأميركية سيكون نتيجة عوامل أكثر تقليدية مثل التضخم، أو التلاعب في الفوائد، أو حتى التخلف الضمني عن السداد. وبالتالي، يبقى التفاؤل تجاه الذكاء الاصطناعي رهينًا بإثبات فعلي على الأرض.

الدوافع السياسية خلف سيناريوهات التفاؤل

اللافت أن تبني إدارة ترامب لرؤية متفائلة بشأن الذكاء الاصطناعي لا يأتي من فراغ، بل هو مدفوع برغبة استراتيجية في الترويج لمشروع BBB وطمأنة الأسواق. هم يرون في الإنتاجية المدعومة بالذكاء الاصطناعي وسيلة لخفض التضخم ورفع النمو وخفض الدين – وكل ذلك دون تقشف أو رفع ضرائب. ويأملون في أن تكون أميركا الرابح الأكبر عالميًا من هذه الثورة.

أوروبا في مرمى الاستراتيجية الأميركية الجديدة

أحد الأبعاد الخفية لهذا الرهان الأميركي على الذكاء الاصطناعي هو المنافسة الجيوسياسية، لا سيما مع أوروبا. إذ تأمل واشنطن في الاستحواذ على أكبر قدر من المكاسب الناتجة عن هذه الثورة التكنولوجية، وهو ما قد يعني تقليص حصة القارة العجوز من الابتكار والاستثمار والموارد البشرية المتقدمة، ما يضيف بعدًا تنافسيًا جديدًا للمعادلة.

نهاية مفتوحة: وهم أم فرصة؟

في نهاية المطاف، يظل السؤال مفتوحًا: هل الذكاء الاصطناعي هو الخلاص الحقيقي لأزمة الدين الأميركي؟ أم أنه مجرد “هلوسة” سياسية واقتصادية أخرى وسط سباق محموم على الأمل؟ الإجابة لا تزال معلقة، لكنها بلا شك ستحدد شكل الاقتصاد الأميركي – وربما العالمي – في العقود المقبلة.

اقرا ايضا

ثورة علي القضبان: قطارات ماجليف الصينيه تقترب من حل مشكله هدير الانفاق الصادمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى