عربي وعالمي

صفقة أقل سوءًا: لماذا لم تجد أوروبا أفضل من اتفاق ترامب التجاري

السيايون غاضبون: امر يفضح الفارق فى القوة

في تقرير موسع نشره موقع “بوليتيكو” في 5 أغسطس 2025، تناول الصحفيون كوين فيرهيلست وأنطونيا تسيمرمان وكارلو مارتوسيلي وجاكوب فايتسمان كواليس الصفقة التجارية الجديدة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، التي وُصفت بأنها “أقل السوء” من الخيارات المتاحة. فبعد جولات تفاوض صعبة، ظهر أن الخيار لم يكن بين صفقة جيدة وأخرى ممتازة، بل بين ما هو سيئ وما هو أسوأ. ورغم أن كثيرًا من الساسة الأوروبيين انتقدوا الاتفاق ووصفوه بالخضوع للإملاءات الترامبية، فإن التحليل الأعمق يكشف أن الأمر يتجاوز التجارة إلى موازين القوة الدولية، حيث أصبحت أوروبا، بعد عقود من تخفيض الإنفاق العسكري والتخلي عن الطاقة الروسية، رهينة للمظلة الأمنية الأمريكية ولغازها المسال.

 

توازن غير متكافئ: حين يفرض الأمن شروط التجارة

خلال مفاوضات الصفقة، كان واضحًا أن يد أوروبا ليست العليا، رغم قوتها الاقتصادية. فالمعطيات الجيوسياسية جعلت من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الطرف الأقوى، لا سيما أن أوروبا لم تعد تملك استقلالًا دفاعيًا حقيقيًا منذ نهاية الحرب الباردة، واعتمدت بشكل متزايد على الولايات المتحدة لحمايتها العسكرية. وبانقطاعها عن الطاقة الروسية بعد غزو أوكرانيا، وجدت نفسها مرتهنة أيضًا للغاز الأمريكي. وفي ظل هذه التبعية المزدوجة، لم يكن لدى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين الكثير من هامش المناورة، خصوصًا مع تصاعد النزعات القومية في الداخل الأوروبي، وضعف التوافق بين العواصم المختلفة حول الرد على الرسوم الأمريكية.

 

مشهد تفاوضي يفضح الفارق في القوة

ليس فقط مضمون الصفقة هو ما عكس الفارق بين الطرفين، بل حتى التفاصيل الرمزية. ففي حين حطّت فون دير لاين وفريقها بطائرتين صغيرتين في مطار بريستويك الاسكتلندي، وصل ترامب بطائرته الرئاسية الفخمة، يرافقه أبناؤه بطائرة تابعة لأسرة ترامب ذات اللونين الأسود والذهبي. وكأن الرئيس الأمريكي تعمّد عرض التفوق السياسي والبروتوكولي، ليؤكد أن أوروبا تأتي إلى طاولته وليس العكس. هذا المشهد المسرحي لم يغب عن المحللين، الذين رأوا فيه تأكيدًا لطبيعة النظام التجاري العالمي الجديد، حيث تُستخدم الرسوم الجمركية كسلاح جيوسياسي بامتياز.

 

السياسيون غاضبون… لكن الأسواق مرتاحة

لم تتأخر ردود الفعل السياسية الأوروبية، فوصفت رئيسة وزراء فرنسا الاتفاق بأنه “خضوع”، ونعته وزير المالية الألماني بـ”الضعيف”، فيما اتهمت المفوضة التجارية السابقة سيسيليا مالمستروم الاتحاد الأوروبي بـ”التساهل مع التنمّر الترامبي”. لكن في المقابل، تلقى المستثمرون والأسواق الاتفاق بنوع من الارتياح، حيث رأت بنوك كبرى مثل “غولدمان ساكس” و”دويتشه بنك” أن الصفقة حالت دون سيناريوهات أسوأ بكثير. واعتبر تقرير استثماري أن الاتحاد الأوروبي خرج من الصفقة بأفضل ما يمكن الحصول عليه في ظل هذا التوقيت والموقع الجيوسياسي الحرج.

 

حسابات المقارنة: حتى المملكة المتحدة خرجت بأسوأ

للدفاع عن الصفقة، أشار مسؤولون أوروبيون إلى أن المملكة المتحدة حصلت على شروط أسوأ رغم حصولها على رسوم جمركية مبدئية أقل (10% مقابل 15% للاتحاد). فعلى سبيل المثال، تخضع صادرات الجبن البريطاني لرسوم إضافية تبلغ 14.9%، ما يجعل الكلفة الإجمالية أعلى من نظيرتها الأوروبية. ويُشار هنا إلى أن سقف الـ15% الأوروبي يضرب عند “عتبة الألم” كما وصفها باحث اقتصادي في ODI Global، لكنه على الأقل يضمن عدم تدهور تنافسية المنتجات الأوروبية بشكل كارثي، بخلاف سيناريوهات التصعيد المفتوح التي دخلتها دول كالصين وكندا، والتي أدت إلى عواقب طويلة المدى على علاقاتها التجارية مع واشنطن.

 

منع الحرب التجارية: أولوية قبل أن يصبح الانفجار عسكريًا

الهدف غير المعلن للصفقة، كما توحي به التصريحات الأوروبية، هو تجنب الانزلاق إلى مواجهة لا يمكن التراجع عنها. فالمسؤولون في بروكسل يدركون أن الحرب التجارية إذا خرجت عن السيطرة، قد تنسحب إلى المجال الأمني، حيث أوروبا مكشوفة تمامًا دون الغطاء الأمريكي. وهذا ما لمّح إليه المفوض الأوروبي ميروس شيفكوفيتش حين أكد أن “الأمر لا يتعلق فقط بالتجارة، بل بالأمن، وأوكرانيا، والتقلب الجيوسياسي”. وقد تكون هذه العبارات هي المفتاح الحقيقي لفهم منطق “الصفقة الأقل سوءًا”، إذ أن فقدان الدعم الأمريكي لأوكرانيا أو انسحاب ترامب من الحلف الأطلسي سيكون مكلفًا على جميع المستويات، ويتجاوز بكثير أي خسائر تجارية آنية.

 

خلاصة: صفقة اضطرار أكثر منها اختيار

رغم كل الانتقادات، يبدو أن ما تم التوصل إليه في اسكتلندا ليس إلا تعبيرًا عن واقع دولي جديد، يتراجع فيه الدور الأوروبي الاستراتيجي، ويُعاد فيه رسم خرائط النفوذ بالعصا الجمركية لا الدبلوماسية. وبينما يظهر ترامب بموقع السيد الذي يُملي شروطه، لم يكن أمام أوروبا سوى القبول بما تراه “أهون الشرّين”، على أمل أن يُجنّبها ذلك العزلة السياسية أو المواجهة العسكرية. وكما قالت مالمستروم بصراحة: “ربما كانت هذه الصفقة الوحيدة الممكنة”.

إقرأ ايضَا…
ترامب يستعد لإعلان مرتقب في البيت الأبيض وسط توقعات بفرض رسوم جمركية جديدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى