عربي وعالمي

فرنسا وبريطانيا تعلنان التنسيق النووي لأول مرة: تحول جذري في استراتيجية الردع الأوروبي

في ظل تصاعد التهديدات الروسية وتراجع الثقة بالضمانات الأمريكية، باريس ولندن تتحدان نوويًا لتشكيل نواة "مظلة ردع أوروبية مستقلة"

في خطوة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية،الحرب العالمية الثانية أعلنت بريطانيا وفرنسا عزمهما التنسيق في استخدام ترسانتهما النووية، لأول مرة في تاريخهما، في مواجهة ما اعتبروه “التهديدات القصوى” لأوروبا. هذا الإعلان جاء خلال زيارة دولة أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لندن، وعكست ليس فقط تقاربًا بين الحليفين النوويين في القارة، بل أيضًا قلقًا متزايدًا من انحسار الضمانات الأمريكية التقليدية تحت قيادة دونالد ترامب، الذي أثار شكوكًا حول التزام بلاده بالدفاع الجماعي في أوروبا.

وفي ظل تصاعد التهديدات الروسية، وانكفاء الولايات المتحدة عن أداء دورها التاريخي كضامن لأمن القارة، باتت أوروبا مدفوعة للبحث عن “مظلة نووية مستقلة” أو على الأقل بديلة. ويبدو أن لندن وباريس، القوتان النوويتان الوحيدتان داخل الاتحاد الأوروبي سابقًا وحاليًا، قد قررتا رفع مستوى التنسيق إلى بعد غير مسبوق. وبينما تتبنى فرنسا منذ عقود استقلالية مطلقة في قرارها النووي، فإن الإعلان المشترك مع بريطانيا يمثل تحولًا في العقيدة النووية الفرنسية ويفتح الباب أمام عصر جديد من التعاون العسكري الأوروبي مبني على الردع النووي المشترك.

تحول نوعي في العقيدة النووية الفرنسية

منذ عقود، حافظت فرنسا على ما يُعرف ب”،الاستقلال النووي”، ورفضت الانضمام إلى اتفاقية المشاركة النووية في حلف الناتو، والتي تتيح للولايات المتحدة نشر رؤوس نووية في أراضي دول أوروبية. ومع ذلك، يشير هذا التنسيق مع بريطانيا إلى تحول جوهري في فلسفة الردع الفرنسية، التي لطالما أبقت قرار استخدام السلاح النووي في يد الرئيس الفرنسي فقط. التنسيق الجديد لا يعني اندماجًا في القرار، لكنه يكشف عن تفاهمات عسكرية واستراتيجية بشأن توقيتات وتكتيكات الردع النووي ضد أي تهديد أوروبي مشترك.

اقرا أيضاً:

ثورة في الجراحة: روبوتات ذكاء اصطناعي تنفذ عمليات معقدة بدون تدخل بشري

لندن تعود إلى دور قيادي في الأمن الأوروبي

بالنسبة لبريطانيا، التي انسحبت من الاتحاد الأوروبي قبل سنوات، فإن هذه الخطوة تعيدها إلى قلب منظومة الأمن القاري. عبر هذا التحالف مع باريس، تستعيد لندن جزءًا من تأثيرها الاستراتيجي في أوروبا، وتضع نفسها كـ”ركيزة نووية” بديلة عن واشنطن في ظل التوجس من سياسة ترامب الخارجية. وتؤكد لندن أن ترسانتها النووية، رغم اعتمادها على تكنولوجيا أمريكية، قابلة للتشغيل المستقل، ما يمنحها قدرة حقيقية على الردع خارج المظلة الأمريكية التقليدية.

رسائل مزدوجة إلى الخصوم والحلفاء

 

“غواصة نووية فرنسية خلال دورية في المحيط.. مشهد قد يصبح جزءًا من تنسيق مشترك مع البحرية البريطانية ضمن الردع النووي الأوروبي الجديد.”.

أشارت مصادر في قصر الإليزيه إلى أن الإعلان يحمل “رسالة مزدوجة” موجهة للحلفاء والخصوم على السواء. الرسالة الأولى تطمئن أوروبا بأن هناك غطاءً نوويًا يمكن الاعتماد عليه حتى مع تراجع الدور الأمريكي. أما الرسالة الثانية، فموجهة إلى موسكو، مفادها أن أي تهديد لـ”المصالح الحيوية” لأي من القوتين قد يُواجَه برد مشترك. وهو ما يجعل أي عدوان محتمل أكثر تعقيدًا من ذي قبل من حيث الحسابات الاستراتيجية.

السوابق التاريخية: من “تفاهم شكرز” إلى التحالف الصريح

هذه ليست المرة الأولى التي يُلمّح فيها البلدان إلى تضامن نووي، فقد سبق أن وقعا “إعلان شكرز” عام 1995، والذي أكد أن تهديد مصالح أي منهما يعني تهديدًا للآخر. لكن الاتفاق الجديد يتجاوز التلميحات ويؤسس لقاعدة تنسيق عملياتي قد تشمل الدوريات المشتركة للغواصات النووية، أو الجدولة المتزامنة لعمليات الصيانة، بهدف الحفاظ على وجود دائم في البحار. هذا النوع من التنسيق كان يُعتبر محظورًا في السابق بسبب حساسية الملف النووي، لكنه اليوم يُطرح كضرورة وجودية.

ترامب والخوف من فراغ الردع الأمريكي

التحول في الموقف الأوروبي يأتي على خلفية تصريحات ترامب المتكررة المشككة في التزامات واشنطن تجاه حلف الناتو. هذه التصريحات دفعت دولًا مثل ألمانيا إلى التفكير في بدائل لضمان الردع النووي، وهو ما فتح الباب أمام فكرة أن تشارك فرنسا وبريطانيا “مظلتَيهما النوويتين” مع بقية القارة. وقد يشكّل التحالف الفرنسي-البريطاني نواة لنظام ردع أوروبي مستقل، بعيدًا عن التبعية للقرار الأمريكي.

الفجوة التكنولوجية بين باريس ولندن

من الناحية التقنية، تختلف البنى النووية للبلدين. فرنسا تعتمد بالكامل على منظومة محلية من غواصات وصواريخ جوية وأخرى بحرية، بينما تستورد بريطانيا صواريخ “ترايدنت” من الولايات المتحدة، رغم تشغيلها بشكل مستقل. لكن الإعلان الأخير يشير إلى نقطة التقاء استراتيجية رغم الفجوة الصناعية، وقد تكون بداية لمشروعات تطوير مشتركة مثل الجيل الجديد من الصواريخ، أو تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي لدعم قرارات الاستخدام.

لانكستر هاوس 2.0″: تحالف يتجاوز النووي

ترافق الإعلان عن التعاون النووي مع توقيع اتفاقية دفاعية موسعة تحت اسم “لانكستر هاوس 2.0″، تشمل مشاريع عسكريةضرب غير مسبوقة: إسرائيل تشلّ قدرات إيران النووية والعسكرية في هجوم خاطف تتضم تطوي صواريخ جو-أرض، أسلحة ميكروويف مضادة للطائرات المسيرة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين الضربات الدقيقة. ويشير هذا إلى أن التعاون يتعدى الردع النووي إلى مظلة عسكرية متكاملة تستهدف الهيمنة التكنولوجية الدفاعية في أوروبا.

التحدي الحقيقي: القبول السياسي الأوروبي

رغم الحماس الفرنسي-البريطاني، يبقى التحدي الأكبر هو مدى قبول بقية الدول الأوروبية لفكرة “الردع النووي”المشترك” تحت مظلة غير أمريكية. دول مثل ألمانيا، التي لا تمتلك أسلحة نووية، قد تجد صعوبة في التكيف مع منظومة جديدة تكون فيها رهينة لقرارات باريس أو لندن. ومع ذلك، فإن تسارع الأحداث الجيوسياسية قد يجعل هذا التحدي أقرب إلى حتمية سياسية منه إلى نقاش نظري.

ردع جديد بعقيدة مرنة وحدود رمادية

النقطة الأبرز في العقيدة النووية الفرنسية والبريطانية الجديدة هي “الغموض المقصود”. لم يتم تحديد ما يُقصد بـ”التهديدات القصوى”، ما يُبقي المجال مفتوحًا للتقدير السياسي والعسكري، ويجعل كل خصم محتمل في حالة قلق دائم من تجاوز الخطوط الحمراء. هذه المرونة في التعريف والتطبيق قد تكون أقوى أدوات الردع الحديثة، في عالم باتت فيه الحروب أكثر ضبابية وأقل تقليدية.

ختامًا: ميلاد نواة مظلة نووية أوروبية؟

التنسيق النووي البريطاني-الفرنسي، سواء بقي ثنائيًا أو توسع لاحقًا، قد يكون النواة الأولى لما يمكن تسميته مستقبلاً بـ”المظلة النووية الأوروبية”. وفي ظل تراجع الضمانات الأمريكية، وتصاعد التوتر مع روسيا، قد تجد أوروبا نفسها مضطرة للتفكير جديًا في تأسيس استراتيجية أمن جماعي مبنية على قدراتها الذاتية، لا على وعود خارجية قابلة للتراجع.

اقرا أيضاً:

ترامب يصعّد المواجهة التجارية: ضرائب تصل إلى 30% على واردات من دول عربية وآسيوية

الأء ياسين

صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى