فن وثقافة

فن القلق والدهشة: ستانلي دونوود ورحلة ثلاثين عامًا مع راديوهيد

اسلوب ارتجالى بين التنافس التؤاطو الفنى

منذ التسعينيات وحتى اليوم، بقيت الصور المرتبطة بفرقة “راديوهيد” عصيّة على النسيان، محفورة في ذاكرة جمهورها كما لو كانت امتدادًا صوتيًا بصريًا لأغانيها القلقة والمشحونة. خلف تلك العوالم الغامضة يقف الفنان البريطاني ستانلي دونوود، رفيق درب توم يورك منذ بدايات الفرقة، الذي صنع بأسلوبه الفني الخاص عالمًا بصريًا يعكس التوترات الوجودية والنفسية التي تعج بها موسيقى “راديوهيد”. واليوم، بينما يفتتح متحف أشموليان في أكسفورد معرضًا استرجاعيًا لأعماله تحت عنوان “هذا ما تحصل عليه”، يعود دونوود ليتأمل مسيرته الطويلة، التي جمعت بين البساطة العفوية والتجريب الجرئ، بين الأزمات الإبداعية واللحظات التي تنفجر فيها الأفكار من اللاشيء.

بدايات غير متوقعة وصداقة مصيرية

قصة دونوود مع “راديوهيد” لم تبدأ من تخطيط مسبق، بل من صدفة شبه عبثية. فبعد تخرجه من قسم الفنون الجميلة بجامعة إكستر، وجد نفسه يتجول كفنان شوارع يعرض مهاراته في نفث النار. هناك، وفي مدينة أوكسفورد، لمح ملصقًا لحفل لفرقة تُدعى “On a Friday” – الاسم القديم لراديوهيد – ليكتشف أن صديقه الجامعي توم يورك هو المغني الرئيسي. ومع فشل عرضه الأول في أداء عرض ناري داخل أحد الحفلات بسبب مخاوف صاحب المكان، انطلقت صداقة فنية تحوّلت لاحقًا إلى شراكة بصرية رافقت الفرقة في كل مراحلها. دعاه يورك قائلاً: “أغلفة ألبوماتنا سيئة، هل ترغب أن تجرب؟”، وكان ذلك بداية كل شيء.

 

أسلوب ارتجالي وتوليد الصور من الأصوات

ما ميّز تجربة دونوود ليس فقط إنتاجه لأغلفة الألبومات، بل طريقته في العمل؛ إذ كان ينتقل مع الفرقة إلى الاستوديو، أو إلى مكان قريب منه مزوّد بخط صوت مباشر، ويبدأ برسم اللوحات استجابة للموسيقى الحيّة التي تُصنع لحظتها. هذا التفاعل الحسي بين الصوت والبصر، وبين الهواجس الوجودية والصورة، أفضى إلى أعمال تحمل طبقات من الدلالات القاتمة. وكان دونوود يعاني أحيانًا من شعور العجز الإبداعي، بل الخوف من نفاد الأفكار. ومع ذلك، كانت اللحظة الحاسمة دومًا تأتي بلا إنذار: “فجأة يحدث شيء ما، فتصرخ داخلي: هذا هو!”.

 

بين التنافس والتواطؤ الفني

على مر السنين، لم تكن العلاقة الفنية بين دونوود ويورك مجرد تعاون بل منافسة ودية. في البداية، كانا يتسابقان على إنهاء العمل، كلٌّ منهما يحاول فرض لمساته. لكن مع الوقت، ومع النضج – وربما التعب – أصبحت العلاقة أكثر تعاونًا وأقل صراعًا، حتى باتا يرسمان على نفس القماش أحيانًا، يتداخلان، يغطّي أحدهما أعمال الآخر، ويمنحها حياة جديدة. هذه الديناميكية المعقدة، التي جمعت بين التوتر الإبداعي والحميمية، تجلّت بوضوح في أغلفة مثل “أوكي كمبيوتر” و”كيد إيه”، التي تحوّلت إلى أيقونات بصرية في تاريخ موسيقى الروك البديل.

تقنيات متنوعة وهوس بالتجريب

لا يلتزم دونوود بأسلوب واحد. من الكولاج إلى الرسم الزيتي، ومن الطباعة الحجرية إلى الفن الرقمي، تتنوع أدواته بتنوع الألبومات التي يرافقها. في أحد أعماله ضمن معرض أكسفورد، استخدم ألوانًا محددة مستلهمة من لوس أنجلوس وكتب كلمات على اللوحات بألوان الطرق السريعة هناك، مستجيبًا لجو تسجيل ألبوم “هيل تو ذا ثيف” في أمريكا. وفي عمل آخر، لجأ إلى ورق الجرائد والطلاء الغليظ لينسج خرائط خيالية مستلهمة من أطلسات القراصنة العرب، وهو ما انعكس على أغلفة فرقة “ذا سمايل”، المشروع الجانبي ليورك.

التعبير عن القلق في عصر مضطرب

لوحات دونوود ليست مجرد تصاميم غلاف، بل نوافذ على حالات نفسية مقلقة، على خوف من التكنولوجيا، من فقدان الهوية، من الوحدة، من ضجيج العالم. إنها مرآة بصرية لتلك المشاعر التي تنضح بها موسيقى “راديوهيد”. في عمل مثل “Snowfall on House”، نرى تلاشي الحدود بين الإنسان والآلة، بين المنزل والمجهول، بين الذاكرة والحاضر. وحتى في أعماله الأحدث، مثل “خريطة العالم الجديد”، يواصل دونوود هوسه بالخريطة كاستعارة للعقل البشري المشرذم.

 

فن لا ينفصل عن التجربة السمعية

تكمن قوة دونوود في أنه لا يقدّم أعمالًا منفصلة عن الموسيقى، بل يُنتج “أغلفة يمكن سماعها”؛ أعمالًا لا تشرح الألبوم، بل تضعك داخله. هذا التداخل بين الصوت والصورة لا يأتي من تفسيرات حرفية أو رمزية مباشرة، بل من شعور مشترك بالتشظي، بالقلق، بالبحث عن معنى. لذا، لا يمكن فصل أعمال دونوود عن “راديوهيد”، تمامًا كما لا يمكن تصور موسيقى الفرقة بدون عالمها البصري المرافق.

 تحفة فنية مشتركة

في نهاية المطاف، ما يجعل دونوود فريدًا هو أنه لم يكن مجرد مصمم أغلفة، بل جزء من النسيج الإبداعي للفرقة. هو من نقل هواجس يورك وألحان الفرقة إلى عالم بصري بنفس القدر من الجمال والقلق. ومع مرور أكثر من ثلاثة عقود على انطلاق هذا التعاون، لا يزال دونوود يؤمن بأن الفن يأتي من قلب التوتر – من تلك اللحظة التي تظن فيها أنك فقدت كل شيء، قبل أن ينبثق من العدم شيء لا يشبه أي شيء آخر.

اقرا ايضا:

كونغسبرغ تبرم عقد إنتاج شامل لابراج ACV_30 بقيمة تصل إلى 330 مليون دولار: تعزيز قوة مشاة البحرية الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى