غزة على حافة المجاعة: الجوع يحاصر الحياة ويكسر الكرامة
من شبح الغارات إلى شبح الجوع... أطفال بلا غذاء وأمهات بلا حليب وسط صمت عالمي مخزٍ

في شوارع غزة المدمّرة، حيث الغبار يختلط برائحة البارود، لا يبحث الناس عن الأمان أو المأوى، بل عن شيء أبسط بكثير: لقمة تسدّ الجوع. فالأزمة الإنسانية في القطاع المحاصر بلغت ذروة غير مسبوقة، بعدما تراجعت حتى الطبقة المتوسطة عن قدرتها على تأمين أبسط مقومات الحياة، في ظل حصار إسرائيلي خانق، وتراجع وصول المساعدات، وتآكل قيمة المال. لم يعد الفقر يميّز أحدًا، الكل جائع، والكل يركض خلف شائعات بوجود حفنة طحين أو كيس عدس.
القصة لم تبدأ فجأة، بل تراكمت تدريجيًا منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023. ومع تعاظم الحصار الإسرائيلي، وتقييد المساعدات الإنسانية، انهارت البنية الاقتصادية والاجتماعية في القطاع، لينتقل أكثر من مليوني فلسطيني من حالة الخطر إلى المجاعة الفعلية. المشهد الإنساني قاتم إلى حد لا يمكن تخيّله، لا سيّما في ظل غياب أفق سياسي أو إنساني ينهي هذا الانهيار الشامل. وفقاً لتقرير صحيفة فايننشال تايمز.
المال لا يشتري الطعام: نهاية الطبقة المتوسطة
يصف مصطفى، أحد سكان غزة، رحلاته اليومية للبحث عن طعام وكأنها مطاردة بوليسية؛ “نتعقّب رائحة الطحين”، يقول، بعدما أنفق ما يقارب 100 دولار على كيلو عدس نادر في السوق السوداء. كان هذا الغداء المؤلم عبارة عن ملعقة عدس في ماء مالح، تقاسمها ستة أطفال وتسعة بالغين. ولم يكن مصطفى وحده. يروي يوسف عبيد، الذي أحرق 25 ألف دولار من مدّخراته لإنقاذ عائلته من الجوع، أنّ المال فقد قيمته: “لا يوجد شيء لنشتريه أصلاً”. هكذا، تبخّرت الفروقات الطبقية؛ المحامي والمصمم والمهندس باتوا يتسوّلون الطحين مع باقي الناس.
اقرا أيضاً:
فرنسا وبريطانيا تعلنان التنسيق النووي لأول مرة: تحول جذري في استراتيجية الردع الأوروبي
الجوع سلاح: من الحصار إلى التجويع الممنهج
منذ مارس، فرضت إسرائيل حصارًا شبه كامل على غزة، ثم خفّضت دخول المساعدات إلى الحد الأدنى. تحوّلت السيطرة على الإغاثة إلى ساحة صراع بحد ذاتها، حيث دعمت تل أبيب مؤسسة إنسانية تُدار عسكريًا، تتوزع مراكزها في أربعة مواقع تخضع لحماية مشددة، وسط اتهامات من الأمم المتحدة بمحاولة “تسليح المساعدات”. إسرائيل تبرّر ذلك بمنع وصول المواد إلى حماس، لكن المنظمات الدولية تؤكد غياب أي دليل على تحويل ممنهج للإغاثة. النتيجة: مجاعة فعلية في غزة، لا تفرّق بين طفل ومُسنّ، ولا بين غني وفقير.

الطعام عملة نادرة والسكّر حلم فاخر
بات الغذاء في غزة أكثر قيمة من الذهب. كيلو سكر يُباع بـ100 دولار، وكيس طحين بـ40. السيدة أسماء طفش، التي كانت تعيش سابقًا برفاه نسبي بمرتبها من الأمم المتحدة، تجد نفسها اليوم مضطرة لبيع مصوغاتها لتطعم أطفالها. أما الأطفال، فلا يحلمون بلعب أو تعليم، بل يتساءلون كل صباح: “هل دخل الطحين إلى غزة؟”. فالجوع لم يعد حالة مؤقتة، بل تحوّل إلى جزء من يوميات السكان، حيث يملأون بطونهم بالماء وملعقة ملح عندما يعجزون عن توفير أي طعام.
الموت أثناء البحث عن الحياة
في الأسابيع الأخيرة، قتل أكثر من 1000 فلسطيني أثناء محاولتهم الوصول إلى مراكز توزيع المساعدات، وفق ما تؤكده السلطات المحلية. كثير منهم سقطوا بنيران إسرائيلية خلال تجمّعهم حول مراكز “المؤسسة الإنسانية الغزّية”، التي تُدار بإشراف عسكري إسرائيلي. الجيش الإسرائيلي أقرّ بإطلاق النار عدة مرات، مبرّرًا ذلك بـ”السلوك المريب من المتجمهرين”، فيما ترى منظمات دولية أن هذا تعبير صريح عن استخدام الغذاء كسلاح. في غزة، قد يكون الذهاب للحصول على كيس أرز مغامرة تنتهي بالموت.
أزمة السيولة: مال بلا معنى
إلى جانب انعدام السلع، يعاني القطاع من أزمة عملة خانقة. البنوك مغلقة منذ أشهر، وأجهزة الصراف الآلي متوقفة، والمواطنون يلجؤون إلى تجّار العملة الذين يفرضون عمولات تصل إلى 45% مقابل صرف شيكل إسرائيلي ممزّق. يوسف عبيد يقول إنّه يدفع دون تردّد، “لأنني لا أريد أن أسمع بكاء ابني وهو يطلب قطعة خبز”. في مشهد آخر، اشترى حفنة من السكر مقابل ستة دولارات، فقط ليتيح لأطفاله “لعقها”، في تعبير فاضح عن انسحاق الكرامة الإنسانية تحت وطأة الجوع.
الجوع ينهش الأجساد: أطفال لا ينمون وأمهات بلا حليب
تشير بيانات برنامج الأغذية العالمي إلى أن واحدًا من كل ثلاثة فلسطينيين في غزة يقضي أيامًا كاملة دون طعام. في المستشفيات، الأطفال الهزيلون يُعالجون دون مكملات غذائية، والنساء فقدن القدرة على الإرضاع الطبيعي بسبب سوء التغذية. الجرحى لا يلتئمون بسبب انعدام البروتينات، وأدوية الدعم الغذائي لم تعد متوفرة. الأطباء عاجزون، والأهالي يتفرجون على أطفالهم يذبلون أمامهم. إنها مجاعة بكل المقاييس، ومع ذلك، لا يتحرّك العالم إلا ببطء شديد، وبكلمات لا تطعم ولا تداوي.

الدور الدولي الغائب: شجب بلا فعل
رغم التحذيرات المتكررة من الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، لا يزال التدخل الدولي خجولًا. لا ضغوط حقيقية على إسرائيل لتسهيل دخول المساعدات، ولا خطوات حاسمة لإنشاء ممرات آمنة أو فرض وقف لإطلاق النار لأغراض إنسانية. في المقابل، تستمر القوى الكبرى في تقديم الغطاء السياسي والعسكري لتل أبيب. تقف العائلات الغزّية اليوم بين فكي كماشة: حرب لا ترحم، ومجتمع دولي يشجب بصوت منخفض ثم يدير ظهره. النتيجة: موت بطيء بالصمت والتجويع.
مصطفى: من وجه سينمائي إلى شبح إنساني
قبل الحرب، كان مصطفى رجلاً طويل القامة، قوي البنية، وسيمًا، يشبه نجوم السينما كما يصفه أصدقاؤه. اليوم، بعد خسارته 40 كيلوجرامًا من وزنه، بات يخجل من إرسال صورته، ويعتذر عن مظهره الذي فرضته الحرب. يقول بمرارة: “إن لم نمُت بغارة إسرائيلية، سنموت من الجوع. وإن حدث ذلك، سامحونا”. صوته ليس استغاثة فقط، بل شهادة من تحت الأنقاض على فشل الإنسانية.
غزة تختنق… والجوع يُكتب بالدم
المأساة في غزة تجاوزت حدود السياسة والحرب، لتتحوّل إلى وصمة أخلاقية على جبين العالم. الجوع ليس عرضًا جانبيًا في معركة، بل سياسة تُمارس، وواقع يومي يتكرّس. في ظل غياب محاسبة دولية، وتهرّب الدول من مسؤولياتها الأخلاقية، يبقى سكان غزة محاصرين بالموت، تتكفّل به قنابل السماء أحيانًا، وفراغ الصحون دائمًا. الصمت الدولي يُغذي المجاعة أكثر من أي شيء آخر، فيما الجوعى في غزة يواصلون نضالهم اليومي بحثًا عن كسرة خبز… وعن كرامة مفقودة.