الرئيس الذي خذل المقهورين رغم نجاته من فخ ترامب
لقاء متوتر في البيت الأبيض: ترامب يفاجئ رامافوزا بادعاءات "إبادة البيض"

ما كان يُفترض أن يكون لقاءً وديًا بين رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا ونظيره الأمريكي دونالد ترامب، تحوّل فجأة إلى مشهد مسرحي مشحون. بدأ الاجتماع بكلمات مجاملة حول لعبة الغولف، بحضور بعض نجوم اللعبة الجنوب أفارقة مثل إيرني إيلز وريتييف جوسن، لكن ترامب قاطع الأحاديث الرياضية ليعرض فيديو مطولًا ومقالات مطبوعة تتحدث عن “إبادة بيض مزعومة” في جنوب أفريقيا. وفقًا لصحيفة الجارديان
كان هذا المشهد، كما وصفه كثيرون، بمثابة “كمين إعلامي” أعده ترامب، مستندًا إلى روايات جماعات يمينية متطرفة في الولايات المتحدة، ومتجاهلًا الواقع المعقّد الذي تعيشه البلاد.
الوفد الجنوب أفريقي يصحح السردية.. ولكن بثمن
رغم المفاجأة، نجح الوفد الجنوب أفريقي في الرد بحزم على مزاعم ترامب، موضحين أن الجريمة في البلاد تطال جميع الأعراق، وليست موجهة ضد البيض فقط. وأشارت زينجيسوا لوسي، رئيسة اتحاد نقابات العمال، إلى أن النساء السوداوات في المناطق الريفية هن الأكثر تضررًا من العنف والجريمة.
لكن من وجهة نظر الصحفية والمحققة الجنوب أفريقية زانيلي مجي، لم يكن التصدي لهذه المزاعم كافيًا. بل رأت أن اللقاء مثّل فرصة ضائعة كان يمكن خلالها لرامافوزا أن يعرض الصورة الحقيقية للألم التاريخي العالق في تفاصيل الحياة اليومية للفقراء والمهمشين، بدلًا من الاكتفاء بتقديم صورة “معتدلة” تُرضي البيت الأبيض.
قانون إصلاح الأراضي.. جذور الصراع ومحرك الاتهامات
أحد المحركات الخفية لهذا الصدام كان قانون إصلاح الأراضي الجديد الذي أقرّته جنوب أفريقيا في يناير الماضي. يهدف القانون إلى معالجة تراكمات عقود من التهميش والحرمان الذي تعرض له السكان السود تحت نظام الفصل العنصري، من خلال إعادة توزيع الأراضي الزراعية التي ما زال 72% منها بيد الأقلية البيضاء.
لكن هذا المسعى الإصلاحي أثار قلق جماعات يمينية في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة، رأوا فيه تهديدًا لـ”حقوق الملكية” وبدأوا يروّجون لفكرة “إبادة البيض”، رغم أنها فكرة تفتقر لأي أساس واقعي أو إحصائي.
ملاعب الغولف الفاخرة.. رموز لفجوة طبقية لا تزال قائمة
تربط الكاتبة زانيلي مجي بين الغولف – الذي استُخدم كورقة تهدئة في الاجتماع – وبين الميراث العنصري المرتبط بالأرض. تستشهد بمنطقة “فورويز” الثرية في جوهانسبرغ، والتي تضم مجمعات سكنية فاخرة مبنية على أراضٍ زراعية كانت ملكًا لسكان سود تم تهجيرهم قسرًا خلال القرنين الماضيين.
فورويز اليوم تمثل قمة الرفاهية: بحيرات صناعية، مطاعم راقية، أسوار كهربائية وأنظمة مراقبة. لكنها أيضًا ترمز إلى التفاوت العرقي والطبقي في التملك، في بلد ما زال فيه الملايين محرومين من أبسط مقومات الحياة.
وراء الجدران.. حكايات عن النفي وفقدان الهوية
قبل أن تتحول فورويز إلى حي للنخبة، كانت أراضيها مملوكة لعائلات سوداء أُجبرت على العمل كخدم في أراضيها، ثم طُردت في الثمانينيات مع بداية نهاية الفصل العنصري. كثير منهم أُعيد توطينهم في بلدات مكتظة مثل ألكسندرا وسويتو، بلا تعويض، بلا أرض، بلا شواهد لقبور أجدادهم.
العديد من دعاوى استعادة الأراضي لا تزال حبيسة الأدراج في النظام القضائي، بعد ثلاثين عامًا من الديمقراطية. والأمل يتلاشى ببطء، فيما يشعر الضحايا بأن الدولة نسيتهم أو تخلت عنهم.
فشل الحكومة.. هل أصبح غياب العدالة معيارًا للسلام؟
تنتقد الكاتبة الطريقة التي يستخدم بها الوفد الحكومي فشل مشروع إصلاح الأراضي كـ”دليل” على التعايش العرقي. فوفقًا لها، استمرار تملك البيض للنسبة الأكبر من الأراضي لا يعني أن البلاد بخير، بل يؤكد أن الدولة أخفقت في تصحيح الظلم التاريخي.
إن عجز الدولة عن ضمان العدالة في توزيع الأراضي يعني ببساطة أنها أخفقت في تحقيق أحد أهم وعودها بعد نهاية نظام الفصل العنصري. والأسوأ أن هذا الفشل يُستخدم الآن كدعاية مضادة لتبرئة ساحة البيض وإقناع العالم بعدم وجود تمييز.
المخيمات المنسية.. حيث تعيش الأغلبية في الخوف والجوع
البلدات الفقيرة التي نُقل إليها السود سابقًا لا تزال تعاني من انعدام الأمن، البطالة، وسوء الخدمات. هذه الأماكن – لا الغولف أو القصور – هي الواقع اليومي لغالبية الشعب الجنوب أفريقي.
هذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية هي التي تؤجج العنف والجريمة، وليس وجود البيض. لكن بدلًا من أن يركز رامافوزا على هذه المآسي في حديثه مع ترامب، فضل تلطيف الأجواء وتجنب المواجهة.
فرصة ضائعة.. من الذي خسر حقًا؟
ربما لم يكن ترامب مستعدًا لسماع رواية معقدة عن الظلم العرقي والتاريخي. لكن خسارة هذه الفرصة لم تكن خسارة دبلوماسية فقط، بل خسارة رمزية لآلاف الجنوب أفارقة الذين لا يزالون ينتظرون عدالة غابت عنهم لعقود.
من يقف خلف الأسوار العالية اليوم ليس هو من يُهدد بالانقراض، بل من لا يملك لا أرضًا، ولا عملًا، ولا مأوى آمنًا.