تجريد مترو لندن من هويته العامة: عندما تصبح رحلة القطار إعلانًا متنقلًا
تجريد مترو لندن من هويته العامة

مترو أنفاق لندن، برموزه البصرية المميزة ومحطاته الكلاسيكية، لطالما مثّل أكثر من مجرد وسيلة مواصلات. لقد كان علامة على الهوية العامة، ودرسًا في التصميم المدني الذي يربط سكان المدينة بروحها الحضرية. غير أن محاولة هيئة النقل في لندن (TfL) مؤخرًا بيع رعاية حصرية لخط “واترلو آند سيتي” لشركات تجارية، تكشف عن انزلاق خطير من منطق الخدمة العامة إلى منطق الإعلان الممول.
من الفن إلى الإعلان: بداية التفكك البصري
منذ بدايات القرن العشرين، رسّخ مترو لندن نفسه كرمز بصري عالمي بفضل أسماء مثل ليزلي غرين، وإدوارد جونستون، وهاري بيك. تصميم المحطات، الخطوط الطباعية، خريطة المترو الشهيرة وحتى أقمشة المقاعد، شكلت هوية متكاملة أضفت على المترو طابعًا لا يشبه أي شبكة نقل في العالم.
لكن هذه الهوية تتعرض الآن لتحدٍ جديد بعد أن أعلنت TfL على لينكد إن عن فتح الباب أمام “رعاية حصرية” لخط “واترلو آند سيتي”. الرعاية، حسب الإعلان، تشمل كل شيء من أقمشة المقاعد إلى اللوحات والإشارات وحتى الخرائط. الهدف؟ منح الشركات فرصة “امتلاك الرحلة” بالكامل – من بنك إلى واترلو – في مقابل آلاف “اللحظات القابلة للمشاركة” على وسائل التواصل الاجتماعي.
الرأسمالية في المقاعد الخلفية: حين تتسلل الإعلانات إلى حياتك اليومية
الصفقة المقترحة ليست الأولى، لكنها الأكثر اكتمالًا في تحويل رحلة القطار إلى مساحة إعلانية مغلقة. فبينما بدأ الأمر في 2012 بتسمية مشروع تلفريك لندن باسم “طيران الإمارات” مقابل 3.6 مليون جنيه سنويًا، استمرت TfL بتجارب أكثر إثارة للجدل، مثل تغيير اسم محطتي بوند ستريت وأولد ستريت إلى بوربري ستريت وفولد ستريت لفترة وجيزة للترويج لشركات أزياء وهواتف.
الآن، يبدو أن الشركة مستعدة لتسليم خط كامل، بكل مكوناته البصرية، لأغراض تسويقية، متجاهلة تأثير ذلك على شريحة واسعة من الركاب – خصوصًا من يعانون من اضطرابات إدراكية أو عصبية، حيث يمثل تغير تصميم الإشارات أو الأسماء مصدرًا حقيقيًا للارتباك.
هل هناك ما هو أكثر من التمويل في المعادلة؟
في مدينة تُباع فيها المساحات العامة للقطاع الخاص تدريجيًا، من الأرصفة إلى الحدائق، ظل المترو أحد آخر الحصون المدنية التي تجمع الجميع في تجربة حضرية مشتركة. الهوية البصرية الموحدة، والخطوط الواضحة، والمحطات المصممة بعناية، كلها تساهم في تجربة مدنية متكاملة.
الخطورة ليست فقط في الإعلانات، بل في الفلسفة التي تقف وراءها: تقويض ما أسسه روّاد مثل فرانك بيك، الرجل الذي قاد حركة “التصميم الكلي” في مترو لندن، والذي رأى أن التصميم الجيد ليس ترفًا، بل ضرورة مدنية.
قال بيك ذات مرة: “اختبار جودة الشيء هو مدى صلاحيته للاستخدام. إذا فشل في هذا المعيار الأول، فلن تُصلحه أي زخرفة أو تكلفة إضافية، بل ستزيده حماقة”.
هل نركب “أمازون لاين” العام المقبل؟
ربما لن يطول الوقت قبل أن نجد أنفسنا نركب “خط أمازون برايم” بدلاً من “بيكاديلي”، أو ننتقل على “نايكي لاين” بخطوات محاطة بملصقات الإعلانات. الأمر لم يعد مجرد طرفة، بل سيناريو يقترب من التحقق إذا استمرت TfL في “سد فجوات التمويل” بهذه الطريقة.
في النهاية، قد تكون هذه الاتفاقيات حلًا قصير الأمد لأزمة مالية، لكنها تمثل تهديدًا طويل الأمد لفكرة النقل العام كحق جماعي، لا كمنصة دعاية. الرحلة إلى العمل ليست مناسبة لخلق “لحظات قابلة للمشاركة” بقدر ما هي لحظة يجب أن تبقى ملكًا للناس، لا للمعلنين.