الزراعة في مرمى النار: كيف تستهدف روسيا قلب أوكرانيا الريفي؟
كيف تأثرت الزراعة الأوكرانية بالحرب.. وإلى ماذا تهدف روسيا؟

تحت وقع الهجمات اليومية، ووسط الحقول المزروعة بالألغام وموجات النزوح الجماعي من القرى، تخوض الزراعة الأوكرانية معركة صامتة قد تكون من أكثر جبهات الحرب تدميرًا واستنزافًا. فبينما تحتل القوات الروسية ربع الأراضي الزراعية في البلاد، وتمنع القوات الأوكرانية العمل في مناطق واسعة لأسباب أمنية، ينهار هذا القطاع الحيوي الذي كان يمثل قبل الغزو نحو 11% من الناتج المحلي و17% من الوظائف. من القرى المحاصرة في سومي وخاركيف إلى الحقول المحترقة والقلاع الترابية التي تشق الأراضي الزراعية، يرصد هذا التقرير كيف أصبحت الزراعة الأوكرانية ضحية استراتيجية في حرب طويلة الأمد تستهدف الهوية والبنية التحتية والاقتصاد المحلي على حد سواء.
المزارع المقاتل: وجوه جديدة للمهنة القديمة
في قرية قرب مدينة سومي الشرقية، يتنقل المزارع ميكولا موندرائيف بين حطام طائرة مسيّرة روسية بينما تترصده الأخطار من كل اتجاه. لا يكتفي موندرائيف بالزراعة، بل يخدم ثلاثة أيام في الأسبوع ضمن وحدات الدفاع الإقليمي، فيما يحاول في الأيام الأخرى مواصلة العمل في أرضه التي تقع على بعد 30 كيلومترًا فقط من الجبهة، وهي مسافة لم تعد آمنة.
استهداف ممنهج: الطائرات لا تميز بين الثكنات والحقول
رغم أن مزرعة موندرائيف لم تُقصف حتى الآن، إلا أن القلق لا يفارقه، كما يقول: “الروس لا يقصفون المواقع العسكرية فقط. إنهم يستهدفون المزارع أيضًا. الزراعة جزء من هوية أوكرانيا، ولهذا يريدون تدميرها”. ويبدو أن هذا الاستهداف لم يعد عشوائيًا، بل أصبح جزءًا من استراتيجية تستهدف تفكيك الاقتصاد الريفي وضرب الروابط المجتمعية فيه.
الحقول المحاصرة: احتلال مباشر وتقييد غير مباشر
وفقًا للبنك الدولي، فإن ربع الأراضي الزراعية الأوكرانية باتت تحت الاحتلال الروسي المباشر، بينما تُصنف مساحات أخرى ضمن مناطق الحظر العسكري، حيث يُمنع المزارعون من دخولها لأسباب أمنية. كما تم تحويل بعض الأراضي الزراعية إلى مواقع تحصين عسكرية، ما يحرم أصحابها من استخدامها أو حتى الاقتراب منها.
نقص اليد العاملة: الجميع مجندون والجبهات لا ترحم
تعاني المزارع الأوكرانية من نقص حاد في العمالة، إذ تشير التقديرات إلى أن نسبة العجز وصلت إلى 30% مقارنة بـ10% فقط قبل الغزو. فالعديد من العاملين تم تجنيدهم إجباريًا، بينما غادر آخرون القرى إما إلى المدن أو إلى خارج البلاد. المزارع الصغيرة كانت الأكثر تضررًا، إذ لا ينطبق عليها الإعفاء من التجنيد.
الدمار الصامت: بنية تحتية زراعية على وشك الانهيار
يروي أوليه خومنكو، مدير نادي الأعمال الزراعية الأوكراني، أن خسائر القطاع تقدر بـ100 مليار دولار، تشمل تدمير المصانع والمخازن والمعدات، إضافة إلى الخسائر البشرية. في سومي، تعرض مخزن المزارع ميكولا باناسنكو ومكتبه لهجومين بطائرات مسيّرة خلال أسبوع، ما أدى إلى موت عدد كبير من حملان الماشية بسبب الذعر الذي سبّبته الانفجارات.
الزراعة المسلحة: الحقول تتحول إلى مناطق حرب
في كثير من الحالات، لم يعد من الممكن دخول الحقول دون حراسة مسلحة أو أجهزة تشويش ضد الطائرات المسيّرة. وفي أرض باناسنكو، يختبئ الجرار الزراعي بين الأشجار كي لا يكون هدفًا مرئيًا. ويقول: “أخفي الجرار عندما لا أستخدمه، فأي شيء ظاهر يصبح هدفًا محتملاً”.
قرى تحتضر: نزيف اقتصادي واجتماعي لا يتوقف
يحذر باناسنكو من أن انهيار المزارع الصغيرة يعني موت القرى بأكملها. “نحن من نزوّد المطاحن المحلية. نحن من نوفر المواشي والبذور للقرويين. وإذا توقفنا، يتوقف كل شيء”، يقول. هذا الانهيار المتسلسل يؤثر على الأسواق المحلية ويقضي على فرص العمل.
مزارع بمفرده: رحلة الانهيار تبدأ من الهاتف
يعرض المزارع أندريه سيما صورة لطائرة مسيّرة روسية سقطت على أرضه، ويقول: “بعض هذه الطائرات مفخخة، لذلك نخاف حتى من لمسها”. قبل الحرب، كان يملك 150 خنزيرًا يبيع صغارها للقرويين. اليوم لا يربي سوى بعض الطيور، وقد خسر ثلث دخله. ويضيف: “لم أعد أملك عمالًا، أعمل وحدي مع ابني فقط”.
أراضي محفورة بالخنادق: الحرب تقتطع من الأرض والرزق
تنتشر الخنادق والمتاريس في أراضي سيما، وتقطّع حقله الذي كان مزدهرًا. ورغم أن مزارعه لا تزال تنتج القمح وعباد الشمس، إلا أن المشتريات تراجعت، والأسعار انخفضت، فبعض التجار يشترون منه بسعر الحبوب المخصصة للعلف وليس للخبز، مبررين ذلك بالمخاطر الأمنية.
الزراعة الكبرى تتألم أيضًا… وإن كانت أقل
حتى الشركات الزراعية الكبرى لم تسلم من الضرر، رغم قدرتها الأكبر على التكيف. شركة “فيكتوريا” التي تدير 45 ألف هكتار وتوظف أكثر من 500 عامل، فقدت نحو 20% من أراضيها لصالح المناطق العسكرية. وتراجعت إنتاجيتها بشدة، لتؤكد أن الخسائر في القطاع تشمل الجميع، وليس فقط صغار المزارعين.