“فورين بوليسي”: لماذا لا يثور الإيرانيون رغم كراهيتهم للنظام؟
التصعيد وتساؤلات حول الصمت الإيراني الداخلي

بينما كانت الطائرات الإسرائيلية تدك البنية العسكرية الإيرانية، وتُعلن السيطرة على المجال الجوي الإيراني، توقّع كثيرون أن تندلع انتفاضة شعبية شاملة داخل إيران، مستغلّة حالة الضعف العسكري والانكشاف السياسي للنظام. هذا التصوّر غذّته نداءات من المعارضة الإيرانية في الخارج، وآمالٌ لدى بعض دوائر صنع القرار في الغرب، تفترض أن الضربة العسكرية قد تكون شرارة انتفاضة داخلية تطيح بالنظام.
لكن هذه اللحظة لم تأتِ. بقي الشارع الإيراني صامتًا، أو بالأحرى خاضعًا، ما أثار تساؤلات حقيقية: لماذا لا يثور الإيرانيون؟. الإجابة، كما يكشفها هذا التقرير، لا تتعلق بالقبول الشعبي للنظام، بل بشبكة أمنية قمعية هائلة نسجها “الحرس الثوري” على مدى سنوات، وصولًا إلى أعماق كل حيّ وشارع، لتمنع أي بذور للاحتجاج حتى قبل أن تنبت.
جهاز أمني غير مرئي يتحكم بالشارع قبل أن يتحرك
السرّ في الصمت الإيراني يكمن في جهاز أمني فعّال ومنهجي، يُعرف باسم “مقرّات الحرس الثوري للأمن العسكري العملياتي”، وهي أذرع محلية أنشأها النظام عام 2007 بعد دروس الغزو الأمريكي للعراق وسقوط نظام صدام حسين السريع. هذه المقار، وعددها 11، تتوزع على مناطق جغرافية تغطي كافة المحافظات الإيرانية، ولكل منها سلطات تنفيذية مطلقة خلال الأزمات.
تحت إشرافها تعمل “الحراسات الإقليمية”، التي تقود جميع قواعد الحرس الثوري وقوات الباسيج في كل محافظة، وتمتلك وحدتين أساسيتين: واحدة دفاعية في حال الهجمات الخارجية، وأخرى أمنية لقمع التظاهرات والاضطرابات. وفي حالات الطوارئ، مثل احتجاجات 2019 و2022، تتحول الوحدتان معًا إلى جهاز قمع داخلي شامل، يُسيطر على المدن والبلدات والأرياف بلا استثناء.
حيّك مراقب: القمع يبدأ من الجوار قبل العاصمة
ما يجعل هذه المنظومة فعّالة ليس انتشارها على مستوى المحافظات فقط، بل اختراقها كل مستوى جغرافي داخل المدن: من البلديات إلى الأحياء، بل وحتى الشوارع الفرعية. في كل حي، توجد وحدات أمنيّة مكوّنة من رجال ونساء، يتم تفعيلها فورًا عند صدور أوامر الطوارئ، كما حصل مع بداية الغارات الإسرائيلية في يونيو الماضي.
النتيجة: إيران تحوّلت خلال ساعات إلى شبكة من نقاط التفتيش والحواجز، أُقيمت في كل زاوية، في طهران وأصفهان وشيراز وحتى المناطق الريفية. عمليات التفتيش لم تقتصر على المركبات، بل شملت تفتيش الهواتف المحمولة دون إذن قضائي، بحثًا عن محتوى ساخر من النظام أو متعاطف مع إسرائيل، مع اعتقالات فورية.
أدوات القمع تتطور مع تغير أشكال الاحتجاج
بعد أن أصبحت النساء في طليعة الاحتجاجات الأخيرة، شكل النظام وحدات أمنية نسائية لتطويق هذه الظاهرة. وعندما بدأت الدعوات للتظاهر تتخذ شكل الهتافات الليلية من أسطح المنازل، أُرسلت فرق ليلية إلى الأحياء لتحديد مصدر تلك الأصوات ومداهمة البنايات المعنية.
أما الطرقات الرئيسية والميادين، فتحوّلت إلى مناطق عسكرية مصغّرة، تنتشر فيها دوريات الباسيج المدججة بالهراوات والأسلحة الخفيفة، فيما نُصبت الحواجز المسلحة على الطرق السريعة، وفرضت إجراءات استجواب وتحقيق على المارة، مما خلق بيئة من الرعب النفسي يصعب فيها التفكير في أي تحرّك جماهيري.
الإنترنت… الضربة الأولى على الوعي الجماعي
ضمن خطة السيطرة الكاملة، قطع النظام الإنترنت بشكل شبه كامل لأكثر من ثلاثة أيام، فور بدء الضربات الإسرائيلية. هذا القرار اتُّخذ على مستوى مجلس الأمن القومي التابع لوزارة الداخلية، المعروف باسم “شاك”، بالتنسيق مع الحرس الثوري.
كان الهدف واضحًا: قطع التواصل بين الناشطين، ومنع بثّ أي مشاهد قد تحفّز الجماهير على التظاهر، وتعطيل أي تنظيم لحركات احتجاجية منسّقة. رغم عودة الشبكة لاحقًا، إلا أن سرعة الإنترنت لا تزال ضعيفة، ما يعكس استمرار العمل بسياسة التضييق المعلوماتي.
ضربات إسرائيل لم تصل إلى قلب الشبكة القمعية
رغم أن إسرائيل استهدفت قيادات عسكرية ومنشآت نووية، فإنها لم تُصِب سوى “رأس جبل الجليد” من المنظومة القمعية. فقط في الأيام الأخيرة من الحرب بدأت بعض الهجمات تطال مقرات الحرس الثوري الإقليمية، مثل “قيادة كربلاء” التي تُشرف على محافظة خوزستان، و”فيلق الإمام الحسن” في محافظة ألبرز.
لكن الهيكل المركزي الذي يُسيّر هذه الشبكة القمعية، والمتمثل في المقرات الأمنية العملياتية الـ11، ظل إلى حد كبير سليمًا، مما مكّن النظام من الحفاظ على السيطرة التامة على الشارع، حتى في ظل خسارته الجوية والعسكرية المؤقتة.
الردع الاستباقي يمنع حتى شرارة الاحتجاج
ما تُجيده هذه المنظومة الأمنية ليس فقط قمع الاحتجاجات، بل منعها من الأساس. الاستراتيجية تقوم على ضرب “النواة الأولى” لأي تجمّع قبل أن يتحول إلى كرة ثلج. فمن خلال زرع الخوف، وإشعار الناس أن كل حركة مراقَبة، يتم خنق الفعل السياسي حتى في مهده.
النتائج كانت واضحة: خلال 12 يومًا فقط، تم اعتقال نحو ألف مدني بشكل عشوائي، كثير منهم بسبب محتوى على هواتفهم يُعتبر “مؤيدًا لإسرائيل” أو “ساخرًا من المرشد”. وحتى من سُجنوا سابقًا وخرجوا، تمّت تصفية بعضهم بأحكام إعدام مبهمة، في رسالة واضحة: “لا أمان للمعارضين”.
خاتمة: التغيير مستحيل دون تفكيك شبكة القمع
طالما بقيت هذه الشبكة القمعية الأمنية تعمل بكفاءة وتُسيطر على كل شبر من الجغرافيا الإيرانية، فإن أي احتجاج جماهيري واسع سيظل حلمًا بعيد المنال، رغم احتقان الشارع.
التاريخ يُظهر أن النظام لا يسقط من خلال الغضب وحده، بل من خلال تعطيل أدوات سيطرته. وفي إيران، فإن هذه الأدوات ليست فقط العسكر أو الاستخبارات، بل البنية القمعية المتغلغلة في كل حيّ ومنزل. ما لم يتم تفكيك هذه الشبكة أو إضعافها جذريًا، فإن النظام سيظل، كما في العقود الماضية، حاضرًا ومتماسكًا رغم ضعفه الشعبي، يحكم بالقمع لا بالشرعية.
اقرأ أيضًا:
انتصارٌ باهظ الثمن: كيف عززت إسرائيل أمنها ودفعت ثمن عزلتها الدولية