عربي وعالمي

الاتحاد الأوروبي يتراجع أمام عمالقة التكنولوجيا: غرامات بلا تأثير

قانون الأسواق الرقمية يُختبر.. فهل فشل في أول مواجهة حقيقية؟

رغم التصريحات الصارمة لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين هذا الأسبوع تجاه شركات التكنولوجيا العملاقة، فإن الواقع أظهر تراجعًا ملحوظًا في حدة الإجراءات المتخذة. فرغم أن قانون الأسواق الرقمية الأوروبي (DMA) يمنح الاتحاد أدوات قوية لمساءلة ما يُعرف بـ”حراس البوابة الرقمية”، فإن الغرامات التي فرضت على آبل وميتا جاءت أقل بكثير من التوقعات، ما جعلها أقرب إلى توبيخ عابر منها إلى محاسبة حقيقية.

انتهاكات واضحة لقواعد المنافسة العادلة

تُعد آبل وميتا من أبرز الكيانات الخاضعة لقانون الأسواق الرقمية الجديد، الذي يهدف إلى كبح هيمنة الشركات الكبرى على الخدمات الرقمية الأساسية مثل محركات البحث ومتاجر التطبيقات. شركة آبل انتهكت هذا القانون بمنعها المطورين من توجيه المستخدمين نحو مواقعهم الخاصة لتفادي “ضريبة آبل”. أما ميتا، ففرضت على مستخدمي فيسبوك وإنستغرام القبول باستخدام بياناتهم الشخصية أو دفع رسوم شهرية لتجنب الإعلانات – وهو خيار يُعد بمثابة انتهاك صريح للخصوصية وحرية الاختيار.

أرقام كبرى تبدو رادعة… لكنها في الواقع رمزية

رغم أن الغرامات تبدو كبيرة على الورق – 570 مليون دولار على آبل، و228 مليون دولار على ميتا – فإن قيمتها الحقيقية ضئيلة بالنظر إلى عوائد الشركتين. فآبل، التي بلغت إيراداتها في 2024 نحو 391 مليار دولار، لن تتأثر كثيرًا بغرامة لا تمثل سوى 46 ساعة من أرباحها السنوية. كذلك ميتا، التي جنت 62.4 مليار دولار من الأرباح، ستتخطى هذه الغرامة كما لو كانت مجرد تكلفة تشغيل إضافية.

رادع مفقود وتاريخ من الإفلات من العقاب

بالنظر إلى سوابق هذه الشركات، يتضح أن الغرامات المحدودة لم تنجح سابقًا في ردعها. فقد تعرضت ميتا خلال العامين الماضيين لغرامات تجاوزت الملياري يورو، فيما فُرض على آبل غرامة قدرها 1.8 مليار يورو تتعلق بمخالفات تنافسية. ومع ذلك، استمرت الشركات في ممارساتها. إن تغاضي الاتحاد الأوروبي عن استخدام أقصى أدواته – التي تتيح فرض غرامات تصل إلى 10% من الإيرادات العالمية – يُفقد القانون فعاليته، ويُحول العقوبات إلى مجرد “تكاليف أعمال”.

التداعيات السياسية: أزمة ثقة متجددة

هذا التساهل لا يمر دون تبعات سياسية. فالمواطنون في أوروبا، كما في أماكن أخرى، سئموا من مشهد تتفوق فيه الثروة على المساءلة. منذ أزمة 2008 المالية، حين أفلت كبار مسؤولي البنوك من العقاب رغم مسؤوليتهم عن الانهيار الاقتصادي، تراجعت ثقة الجمهور بالمؤسسات، وتنامت النزعات الشعبوية واليمينية المتطرفة. ومرة أخرى، يرى الأوروبيون أن السلطة – سواء اقتصادية أو سياسية – تُعفى من المحاسبة.

هل خضع الاتحاد الأوروبي للضغوط الأميركية؟

يُطرح هنا تساؤل سياسي محوري: هل خفف الاتحاد الأوروبي من غراماته خشية استعداء إدارة دونالد ترامب، الذي يُتوقع عودته إلى السلطة؟ فرغم أن آبل وميتا ليستا رسميًا حلفاء لترامب، فإن علاقتهما بالرأسمالية الأميركية لا تخفى، وأي عقوبات قاسية قد تُفسر كعداء اقتصادي للولايات المتحدة. لكن هذه الحسابات قد تضر بمصالح أوروبا أكثر مما تفيدها، إذ تعرقل تكوين بيئة تنافسية تساعد على نمو شركات تقنية أوروبية قادرة على الوقوف في وجه عمالقة وادي السيليكون.

فرصة ضائعة لإعادة رسم العلاقة مع الشركات الكبرى

ما حدث هذا الأسبوع لا يُعتبر مجرد تراجع قانوني، بل فرصة ضائعة لإعادة تعريف العلاقة بين الحكومات والشركات الرقمية الكبرى. كان بوسع الاتحاد الأوروبي أن يُظهر للعالم أن الكيانات الاقتصادية العملاقة لا تقف فوق القانون. بدلًا من ذلك، بدا وكأنه يخشى إثارة العاصفة، مفضلاً الضرب الخفيف على المعصم. النتيجة؟ تعزيز الاعتقاد السائد لدى هذه الشركات بأن بإمكانها مواصلة مسارها بلا قيود تُذكر، طالما كانت قادرة على دفع الفاتورة والمضي قدمًا.

الحاجة إلى حوكمة رقمية حقيقية

إن الرهان الحقيقي لأوروبا لا يجب أن يكون على التوازنات السياسية الدولية، بل على بناء نظام رقمي عادل يخدم المواطن، ويُحجِّم من تغول القوى الاقتصادية. لا يمكن لهذا الطموح أن يتحقق عبر غرامات رمزية، بل من خلال إرادة سياسية تضع مصلحة الشعوب فوق اعتبارات الربح، وتؤسس لمستقبل رقمي أكثر توازنًا وعدالة.

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى