الحق في الشراء: إرث تاتشر الذي كلف بريطانيا 194 مليار جنيه وأزمة إسكان لا تنتهي
إرث تاتشر المكلف: بيع المساكن العامة يكلف بريطانيا 194 مليار جنيه ويعمق أزمة الإسكان

في عام 1980، أطلقت مارغريت تاتشر واحدة من أبرز السياسات التي شكّلت ملامح الاقتصاد والمجتمع البريطاني لعقود: “الحق في الشراء” لمستأجري المساكن الاجتماعية. وعلى الرغم من الشعبية الواسعة التي حصدتها هذه السياسة لدى قطاعات واسعة من البريطانيين، إلا أن تقريرًا جديدًا من مركز التفكير “كومن ويلث” يكشف كلفة فادحة لهذه المبادرة، التي لم تكن سوى خصخصة مقنّعة للثروة العامة، أسفرت عن خسائر تُقدّر بـ194 مليار جنيه استرليني، وشرخ اجتماعي بات من الصعب رتقه.
بيع المساكن العامة: خصخصة بثمن التراب
منذ إطلاق السياسة عام 1980، تم بيع 1.9 مليون وحدة سكنية تابعة للمجالس المحلية في إنجلترا بمتوسط خصم بلغ 44% من قيمتها السوقية. بحسب التقرير، هذه الخصومات تعني فعليًا أن المجالس البلدية تخلّت عن ما يعادل 194 مليار جنيه من حقوق الملكية العامة. والأخطر أن أكثر من 40% من هذه الوحدات تم تحويلها لاحقًا إلى إيجارات خاصة، ما يعكس انقلابًا جذريًا في فلسفة الإسكان الاجتماعي.
أهداف أيديولوجية ومكاسب سياسية قصيرة الأمد
رغم أن فكرة بيع المساكن العامة لم تكن جديدة، إلا أن حكومة تاتشر كانت أول من حولها إلى ركيزة أيديولوجية ضمن مشروع أكبر لتفكيك دولة الرفاه. القانون الصادر في 1980 ألزَم المجالس ببيع المساكن بخصم ودون دفعة أولى، ومنعهم فعليًا من إعادة استثمار العائدات في بناء مساكن جديدة. الهدف السياسي كان واضحًا: ترسيخ مفهوم “ديمقراطية التملك العقاري”، ودفع البريطانيين نحو رؤية الملكية كأعلى درجات الاستقلال والنجاح.
تدهور هيكلي في الإسكان الاجتماعي
قبل تطبيق السياسة، كانت المساكن الاجتماعية تشكل 31% من مجمل الإسكان في إنجلترا. اليوم، انخفضت النسبة إلى 16% فقط. هذا الانحدار كان له تداعيات واضحة على قوائم الانتظار للحصول على سكن، وعلى نسب التشرد. لم تعد السلطات المحلية قادرة على بناء مساكن جديدة بنفس الوتيرة، بل إن بعض المجالس حسبت أنها تحتاج لبيع 6 وحدات لبناء واحدة جديدة فقط.
اقرا ايضا
القضاء الاداري يستأنف نظر 25طعنا علي انتخابات الشيوخ 2025
من الملكية إلى الإقصاء: تفكك العلاقة بين السكن والمواطنة
ما فعله “الحق في الشراء” ليس فقط تقليص حجم القطاع العام في الإسكان، بل أيضًا تحوير نظرة الدولة والمجتمع إلى العلاقة بين السكن والمواطنة. تحولت الملكية إلى معيار للكرامة والطموح، بينما بات السكن الاجتماعي وصمة. وهو ما أدى تدريجيًا إلى فقدان مفهوم “الحق في السكن” الذي كان قائمًا في العقود الذهبية لسياسات الرعاية الاجتماعية بعد الحرب.
تضامن الحزبين مع المسار النيوليبرالي
لم تكن الحكومات المحافظة وحدها من تبنّت هذا النهج. حتى حزب العمال، الذي حكم في مراحل متفرقة، واصل مسار تاتشر عبر سياسات الخصخصة، نقل ملكية العقارات، وإعادة هيكلة الأحياء الشعبية. والنتيجة: توسع سوق الإيجارات الخاصة، ازدهار المضاربة العقارية، وتراجع قدرة المواطنين على امتلاك أو استئجار منازل ميسورة.
حلول مطروحة ولكنها بلا أفق سياسي واضح
رغم إلغاء “الحق في الشراء” في اسكتلندا منذ 2016 وفي ويلز منذ 2019، لا تزال إنجلترا متمسكة بالسياسة. مؤسسة “شيلتر” قدّرت أن وقف هذه السياسة بالكامل سيوفر ما لا يقل عن 10,000 وحدة سكنية اجتماعية سنويًا. إلا أن أي إصلاح جذري يتطلب إعادة النظر في فلسفة السكن برمّتها، لا فقط إلغاء قانون.
الطريق نحو التعافي: من التملك إلى الإشغال
يقترح التقرير أن المخرج من الأزمة يبدأ بإعادة التوازن بين الملكية والإشغال، وتوسيع قاعدة الإسكان الاجتماعي، وبناء بدائل سكنية غير تجارية. فالسكن ليس سلعة فقط، بل حق اجتماعي وإنساني. وفقط عبر كسر الهيمنة العقارية وتفكيك إرث “الحق في الشراء”، يمكن لبريطانيا أن تعيد صياغة علاقة المواطن بمكان سكنه، وتحمي الأجيال القادمة من الارتهان الدائم في سوق الإسكان المحموم.