الاقتصاد

الهند في مواجهة الحمائية الترامبية: مأزق اقتصادي أم اختبار سياسي؟

تواجه الهند تداعيات اقتصاديه والسياسية خطيره

بينما تتجه الأنظار إلى واشنطن ترقبًا لإعلان جديد من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن سياسات التجارة، تجد نيودلهي نفسها أمام واحدة من أعقد مفترقات الطرق في علاقتها مع القوة الاقتصادية الأولى عالميًا. فالهند، التي لطالما سعت إلى توسيع علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة، تواجه اليوم تهديدًا مباشرًا بإجراءات جمركية صارمة، قد تعصف بصناعاتها التصديرية وتحدّ من طموحاتها الجيوسياسية، إذا لم تتحرك بسرعة ودقة.

 

تأخر في عقد الصفقة وألم المقارنة بباكستان

 

اللافت أن الهند، رغم قوتها الاقتصادية وتعدد قنوات التفاوض التي فتحتها مع إدارة ترامب منذ ولايته الأولى، لم تنجح في إبرام صفقة تجارية حاسمة. بل إن الصدمة الكبرى تمثلت في نجاح باكستان، الجارة والمنافس الإقليمي اللدود، في إبرام اتفاق قبل نيودلهي، ما عُدَّ إخفاقًا استراتيجيًا محرجًا لحكومة ناريندرا مودي. فباكستان، باقتصادها المتواضع مقارنةً بالهند، استطاعت عبر خطاب دبلوماسي ناعم، وتملق سياسي واضح لترامب، أن تنتزع اتفاقًا يضمن لها مميزات تجارية مهمة.

 

ترامب والبعد الشخصي في إدارة الملفات الاقتصادية

 

منذ وصوله إلى البيت الأبيض، لم يُخفِ الرئيس ترامب ميله لإضفاء طابع شخصي على الملفات الكبرى، خصوصًا في ما يتعلق بالسياسة التجارية. وهو أمر لا يخفى في علاقته المتوترة مع رئيس الوزراء الهندي. فترامب لم يغفر لمودي امتناعه عن الاعتراف بدور الولايات المتحدة في التوصل إلى وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان في مايو الماضي. ورغم أن مودي شدد على استقلالية القرار الهندي، فإن غياب الإطراء العلني على دور ترامب أثار حفيظة الرئيس الأميركي، الذي رأى في ذلك تجاهلًا متعمدًا له، مقابل إشادة باكستانية مبالغ فيها وصلت إلى حد ترشيحه لجائزة نوبل للسلام.

 

تصعيد متسارع وتداعيات اقتصادية خطيرة

 

مع فرض ترامب رسومًا جمركية بنسبة 25% على الصادرات الهندية، وتهديده بمزيد من العقوبات التجارية ما لم توقف نيودلهي استيراد النفط الروسي، دخلت العلاقة بين البلدين في مرحلة توتر غير مسبوقة. مثل هذا التصعيد يحمل تداعيات مباشرة على قطاعات صناعية هندية حيوية، أبرزها صناعة المجوهرات، والمنسوجات، والدواء، التي تعد ركيزة أساسية للناتج القومي. فالتقديرات تشير إلى أن الرسوم الأميركية الجديدة قد تخصم 0.3 نقطة مئوية من نمو الناتج المحلي الإجمالي للهند، فضلًا عن تقويض مكانتها كمركز صناعي منافس في جنوب آسيا.

 

الخيار السياسي: هل يغامر مودي بمكانته الداخلية؟

 

في قلب هذه الأزمة، يقف رئيس الوزراء الهندي أمام معضلة سياسية. فهو يدرك أن التنازل لترامب قد يفتح بابًا لتفاهم تجاري يخفف الضغوط عن الاقتصاد، لكنه في الوقت ذاته يخشى على صورته كزعيم قوي. أي اعتراف بدور ترامب في وقف إطلاق النار أو أي تقارب علني قد يُفسّر في الداخل الهندي على أنه خضوع غير مبرر، خاصة في ظل الحملة الإعلامية التي يشنها زعيم المعارضة راهول غاندي، الذي لم يتردد في وصف موقف مودي بأنه “استسلام”، ساخرًا بعبارة “ناريندرا استسلم” (Narendra surrender).

 

الزراعة: الخط الأحمر الذي يصعب تجاوزه

 

إذا كانت الحكومة الهندية مستعدة لتقديم تنازلات في بعض المجالات، فإن فتح القطاع الزراعي، كما يطالب ترامب، يُعدّ منطقة حساسة للغاية. فالهند التي يعتمد نحو 44% من قوتها العاملة على الزراعة، لم تنسَ بعد الاحتجاجات الضخمة التي اجتاحت البلاد في 2020 و2021 اعتراضًا على إصلاحات زراعية حاولت الحكومة تمريرها. وقد انتهت تلك الموجة العارمة بإلغاء القوانين المقترحة تحت ضغط الشارع. لذا، من الصعب تصور أن يقدم مودي على فتح هذا الملف مجددًا قبل الانتخابات المحلية المقبلة، وتحديدًا في ولاية بيهار الحساسة.

 

بدائل مطروحة: الطاقة والدواء والدفاع

 

في ظل استحالة تقديم تنازلات زراعية في الوقت الراهن، تلوح في الأفق خيارات أخرى يمكن أن تعيد المياه إلى مجاريها. من أبرزها خفض أو إلغاء الرسوم الجمركية على المنتجات الدوائية الأميركية، أو زيادة واردات الهند من الغاز الطبيعي الأميركي، ولا سيما عبر إلغاء الضريبة الحالية البالغة 2.5%. وقد يشكل هذا القرار رسالة قوية إلى واشنطن، خصوصًا إذا ما قورن باستمرار الصين في فرض رسوم بنسبة 15% على واردات الغاز الأميركي.

 

وعلى صعيد الدفاع، هناك هامش واسع للمناورة. فرغم علاقات التعاون العسكري القائمة، لم تُترجم إلى التزامات شراء حقيقية في الجولة الحالية من التفاوض. لكن إعلان مودي خلال زيارته الأخيرة لواشنطن عن نية بلاده شراء صواريخ جافلين ومركبات “سترايكر”، قد يكون أرضية لبناء تفاهمات أوسع.

 

الاختبار الحقيقي لزعيم الطموحات الكبرى

 

في نهاية المطاف، لا تكمن المعضلة في البنود الفنية للاتفاق، بقدر ما تتجسد في الكيفية التي سيدير بها مودي توازنًا دقيقًا بين متطلبات الشريك الأميركي ومتطلبات جمهوره الداخلي. لقد طالما قدّم رئيس الوزراء نفسه كمهندس بارع للعلاقات الخارجية، قادر على إبرام صفقات استراتيجية مع القوى العظمى دون التفريط بالكرامة الوطنية. واليوم، مع تصاعد ضغط البيت الأبيض، حان الوقت لاختبار هذا الادعاء.

 

فهل ينجح مودي في تقديم “نصر رمزي” لترامب دون خسارة أوراقه السياسية داخليًا؟ وهل يمكن للهند أن تفوز في هذه اللعبة التجارية المعقدة دون أن تبدو وكأنها خضعت لإملاءات رجل الأعمال الذي يسكن البيت الأبيض؟ هذا ما ستكشفه الأيام القليلة المقبلة.

إقرأ ايضَا…

النرويج تراهن على مستقبل الطاقة في أوروبا عبر مشروع “نورذرن لايتس”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى