ترامب يعيد ترتيب أولوياته بعد جولات خارجية مكثفة

بعد أشهر من الانخراط في ملفات دولية معقدة، من أوكرانيا إلى قطاع غزة، اتجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إعادة ترتيب أجندته السياسية بالتركيز على الداخل. فبينما حرص في البداية على لعب دور الوسيط وصاحب القرار في أزمات الخارج، يبدو أنه بات أكثر ميلاً لتقليص حضوره الدبلوماسي لصالح القضايا المحلية، مثل مكافحة الجريمة، ومواجهة ما يصفه بـ”التطرف اليساري”، إلى جانب محاولات إصلاح نظام التأشيرات. هذا التحول يعكس إدراكًا متزايدًا في واشنطن أن الداخل الأمريكي، بأزماته السياسية والاجتماعية، لا يقل أهمية عن الملفات الخارجية المشتعلة.
تحذيرات أوروبية من تقليص الدعم الأمريكي
أواخر أغسطس شهدت العواصم الأوروبية تحذيرات مباشرة من البنتاغون بشأن تراجع الدعم الأمني الأمريكي، خصوصًا لدول البلطيق الواقعة على خط المواجهة مع روسيا. فقد أبلغ مسؤولون أمريكيون دبلوماسيين أوروبيين أن على أوروبا تطوير قدراتها الدفاعية وتقليل الاعتماد على المظلة الأمريكية. هذا الموقف كشف عن تغير في الاستراتيجية الأمريكية، إذ لم يعد الالتزام المطلق بحماية أمن أوروبا كما كان في السابق. واعتُبر التصريح بمثابة رسالة صريحة بأن واشنطن تنتظر من حلفائها الأوروبيين تحمل مسؤوليات أكبر.
توترات متزايدة مع التحركات الروسية
لم يمر وقت طويل حتى شهدت المنطقة سلسلة حوادث عسكرية روسية أثارت القلق في العواصم الأوروبية. فقد اخترقت مقاتلات “ميغ-31” المجال الجوي الإستوني لدقائق قبل اعتراضها من مقاتلات إيطالية، بينما نفت موسكو حصول الاختراق وأكدت مرورها فوق مياه محايدة. في الوقت ذاته، اقتربت طائرات روسية من منصة نفطية بولندية، كما جرى إسقاط طائرات مسيّرة روسية على الأراضي البولندية. هذه التطورات عكست تصعيدًا مقلقًا دفع بعض المحللين إلى التحذير من أن البلطيق وبولندا قد تتحولا إلى نقاط اختبار جديدة للردع الغربي.
ردود ترامب بين الصمت والتغريدات الغامضة
على الرغم من خطورة الحوادث، جاء رد الرئيس ترامب محدودًا، إذ انتظر ساعات قبل التعليق على اختراق الأجواء الإستونية، واصفًا الموقف بأنه “قد يكون مشكلة كبيرة”. أما بشأن الحادثة البولندية الأخيرة، فاكتفى بنشر تغريدة قصيرة وغامضة عبر منصة Truth Social قائلاً: “ها نحن ذا!”، دون تقديم تفاصيل أو إعلان موقف واضح. هذا الأسلوب في التعاطي مع الأزمات الخارجية أثار جدلًا حول مدى التزام الإدارة الأمريكية الحالي بحماية الحلفاء، مقارنة بالتصريحات السابقة عن قوة الردع الأمريكي.
تراجع الدور الدبلوماسي المباشر
يلاحظ المراقبون أن ترامب بدأ بالفعل يتراجع عن الواجهة الدبلوماسية، تاركًا مساحة أكبر للحلفاء لقيادة المبادرات، بينما تقتصر واشنطن على وعود عامة ودعم بعيد المدى. وجاء هذا التراجع بعد سلسلة قمم وجولات أجراها ترامب، شملت استضافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، والسعي للتوصل إلى تهدئة بين إسرائيل وحماس. غير أن تجاهله مؤخرًا للتحركات الإسرائيلية التي قد تعرقل جهود السلام في غزة عكس تحولًا واضحًا في أولوياته، وربما رغبة في تجنب الانغماس في ملفات تستنزف واشنطن دبلوماسيًا.
التركيز على الأجندة الداخلية
تتضح الآن ملامح التوجه الجديد لترامب، إذ يركز على القضايا الداخلية التي يعتبرها أكثر إلحاحًا في تعزيز موقعه السياسي. وتشمل هذه الملفات حملة واسعة لمكافحة الجريمة، والتصدي لما يسميه “التطرف اليساري العنيف”، إلى جانب إعادة النظر في برامج التأشيرات الكبرى التي طالما أثارت جدلًا سياسيًا في الولايات المتحدة. بهذا الانتقال من الانخراط الدولي المكثف إلى الداخل الأمريكي، يسعى ترامب إلى تعزيز صورته كزعيم قادر على حماية الأمن الداخلي وتقديم حلول ملموسة لمشكلات المجتمع الأمريكي.



