الوكالات

ريتشيل ريفز تراهن على فك القيود لإنقاذ الاقتصاد.. لكن التاريخ لا ينسى

ريتشي ريفز تفتح النار على القيود.. فهل تنقذ الاقتصاد

ألقت المستشارة البريطانية ريتشيل ريفز هذا الأسبوع خطابها الشهير في قاعة “مانشن هاوس” أمام كبار رجال المال في لندن، حيث تبنّت نبرة حاسمة تُذكّر بحقبة تاتشر، وأعلنت صراحة أن القوانين والضوابط التنظيمية باتت كأنها “حذاء على عنق” الشركات، تخنق الابتكار وتشل روح المبادرة. وأشارت إلى أن تقليص البيروقراطية قد يخلق “تأثيرًا تموجيًا” يحرك عجلة الاقتصاد بأكمله. خطابها جاء بمثابة صدمة لكثير من المتابعين، إذ حمل لهجة قد تُنسب لأي وزير مالية محافظ منذ عهد نايجل لوسون.

شبح 2008: هل تُعاد نفس الأخطاء؟

 

لكن إذا كانت ريفز تؤمن فعلًا بأن تحرير السوق من القيود هو المخرج من الركود، فهي بذلك تسير نحو صدمة قاسية. فتجربة فك الضوابط المالية ليست بجديدة، ويمكن للمراقبين أن يعودوا إلى ما حدث في 2008 حين انهار النظام المالي العالمي بعد موجة من التخفيف الرقابي، بدعوى تحفيز الاستثمارات الإنتاجية. ولكن بدلاً من أن تُثمر تلك السياسات دعمًا لريادة الأعمال، انفجرت فقاعة ديون ومضاربات، انتهت بأزمة اقتصادية عميقة وإنقاذ حكومي للبنوك، وتقييد صارم ومتأخر للأسواق.

 

النتيجة الحقيقية آنذاك كانت تراجع الصناعة البريطانية لحساب قطاع مالي متضخم فقد صلته بوظيفته الأساسية: دعم الاقتصاد الحقيقي. وقد غاب عن مُهندسي تلك المرحلة تحذير كينز قبل قرن تقريبًا، حين قال: “قد لا يضر المضاربون حين يكونون فقاعات على مجرى ثابت من الأعمال، لكن الكارثة تقع حين تصبح الأعمال فقاعات فوق دوامة من المضاربات.”

 

ضرائب محتملة ومؤشرات ركود

 

الاحتمال القائم هو أن ريفز تستخدم خطاب فك القيود الآن لتهدئة الأسواق، تمهيدًا لضرائب أثقل على الثروة في موازنة الخريف. ومن هذا المنطلق، قد تجد لنفسها مبررًا شعبيًا: فالأكثر ثراءً استفادوا أكثر من تضخم أسعار الأصول الناتج عن ضخ البنك المركزي 900 مليار جنيه في الأسواق. وليس من قبيل الصدفة أن يتجاوز مؤشر فايننشال تايمز 100 حاجز الـ9,000 نقطة لأول مرة.

 

لكن واقع الخطاب يوحي بخلاف ذلك. يبدو أن ريفز مدفوعة بالقلق من دخول الاقتصاد في حلقة مفرغة، حيث لا نمو كافٍ، ولكن لا بديل عن النمو. وهي محقة في قلقها، فالإنتاج المحلي انكمش في أبريل ومايو، بينما عادت معدلات التضخم إلى الارتفاع مسجلة 3.6% في يونيو، في ظل ركود التوظيف وضعف في الإيرادات العامة.

 

زيادة مساهمات التأمينات الوطنية على أصحاب العمل قلصت شهية الشركات للتوظيف، فيما تواجه الميزانية العامة أزمة خانقة. الاقتراض في مستويات مرتفعة، والحكومة تراجعت عن قراراتها السابقة بشأن دعم الوقود والرعاية الاجتماعية، وكل ذلك وسط اقتصاد لا ينمو بما يكفي لتغطية العجز، ما يجعل من المستبعد أن تتمكن ريفز من الالتزام بوعودها بشأن الانضباط المالي.

 

ضغوط الأسواق ومخاطر الانحراف المالي

 

بدائل الضرائب المباشرة تبدو مغرية لكنها محفوفة بالخطر، فالسندات الحكومية تخضع لمراقبة دقيقة من الأسواق منذ أزمة ليز تراس في 2022، وأي انحراف عن المسار المالي سيكلف بريطانيا غاليًا في شكل فوائد متصاعدة. ومن المعروف أن حكومات حزب العمال تاريخيًا تكون أكثر عرضة للضغط المالي في العامين الثاني والثالث من ولايتها.

 

من هنا تبدو فكرة “النمو بأي ثمن” أقرب للمنطق السياسي. لكن السؤال: كيف نحفز هذا النمو؟ الكاتب يرى أن على بنك إنجلترا أن يتحرك بسرعة أكبر، بتقليص أسعار الفائدة بنحو أكبر من 0.25 نقطة مئوية في ئ ربع سنوي، خاصة أن الاقتصاد يترنح على حافة الركود.

 

كما أن البنك يزيد الطين بلة بمواصلته بيع السندات التي اشتراها خلال برنامج التيسير الكمي في العقد الماضي. هذا البيع يضغط على أسعار السندات، ويرفع تكلفة خدمة الدين الحكومي، في وقت تحتاج فيه المالية العامة إلى كل قرش. هذه السياسة، المعروفة بالتشديد الكمي، ينبغي أن تتوقف فورًا.

 

مفارقة توزيع المال العام وخاتمة التحذير

 

الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. ففي الوقت الذي تُجمد فيه الحكومة مخصصات الرعاية الاجتماعية، تمنح البنوك التجارية فوائد على احتياطياتها لدى البنك المركزي بنسبة 4.25% — وهي أموال عامة في نهاية المطاف. في 2023 وحده، حصلت بنوك مثل ناتويست وباركليز ولويدز وسانتاندير على أكثر من 9 مليارات جنيه. أليس من الأجدى أن يُعاد توجيه هذا المال لدعم الفئات الأكثر هشاشة؟

 

بدلًا من انتظار حلول السوق، يمكن لريفيز أن تأمر البنك بوقف بيع السندات ووقف دفع الفوائد على احتياطات البنوك. لكن من خطابها الأخير، يبدو أنها لا تزال تضع آمالها على قطاع مالي هو نفسه سبب الأزمات السابقة.

اقرأ أيضاً الخفافيش البريطانية: قصة نجاح في الحفظ تثير غضب الحكومات والمطورين

 التاريخ لا يعيد نفسه.. لكنه يُحذّرنا دائمًا

 

في محاولتها للهروب من دوامة الركود، تبدو ريتشيل ريفز وكأنها تعيد قراءة فصول من كتاب قديم، كتبته مارغريت تاتشر ومُزق مع أزمة 2008. لكن الدروس ما زالت على الهامش، والأخطاء على وشك التكرار. إذا كانت المستشارة تراهن على السوق الحرة وحدها لإنعاش اقتصاد متهالك، فعليها أن تتوقع نفس النتيجة: فورة مؤقتة، ثم فقاعة، ثم سقوط مؤلم.

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى