خطة ترمب في أول 100 يوم: حين تبدو “مشروع 2025” مجرد بداية معتدلة

خلال حملته الانتخابية الثانية، حاول دونالد ترامب مرارًا النأي بنفسه عن “مشروع 2025″، وهو برنامج سياسي شامل صاغته مؤسسة “هيريتج” (Heritage Foundation) اليمينية، يدعو إلى إعادة هيكلة جذرية للحكومة الفيدرالية، وتقويض استقلالية مؤسساتها، وتعزيز صلاحيات الرئيس. إلا أن ما جرى فعليًا في أول 100 يوم من ولايته الثانية يكشف عن قصة مختلفة تمامًا، بل تتناقض مع كل ما روج له ترامب في العلن. فالتعيينات الرئيسية في إدارته شملت عددًا من كبار المساهمين في صياغة المشروع، أبرزهم روس فوت، الذي تولى مكتب الإدارة والموازنة، وبيتر نافارو، الذي أعيد كمستشار تجاري وسبق أن كتب فصلًا يدعو لإعادة تشكيل السياسات الجمركية.
هذه الأسماء ليست مجرد رموز، بل منفذون فعليون لبنود المشروع على أرض الواقع، بدءًا من إقالة موظفي الخدمة المدنية غير الموالين، مرورًا بتقليص برامج المناخ والمساعدات الخارجية، وانتهاءً بمحاولات تفكيك وزارة التعليم. ومع توالي القرارات التنفيذية المتناغمة مع توصيات “مشروع 2025″، تلاشت الفروق بين البيت الأبيض ومراكز التفكير اليميني، وبات من الواضح أن المشروع لم يعد مجرد وثيقة نظرية، بل أصبح حجر الزاوية في إعادة تشكيل الدولة الأميركية على النمط الترامبي السلطوي، المركزي، والعدائي للمؤسسات.
تعيينات تعكس التوجهات: من النظرية إلى التطبيق
أحد أبرز المؤشرات على تماهي إدارة ترامب مع المشروع تمثل في تعيين “روس فوت”، أحد مؤلفي المشروع، على رأس مكتب الإدارة والميزانية. كتب فوت فصلًا يدعو لتكريس سلطات تنفيذية واسعة للرئيس، بما في ذلك حجب التمويل عن الوكالات حتى وإن خصصه الكونغرس، وهي رؤية بدأت تتجلى على أرض الواقع.
ترامب لم يكتفِ بفوت، بل اختار مستشار التجارة بيتر نافارو الذي كتب فصلًا يدعو لإعادة هيكلة التجارة الأميركية وفرض رسوم جمركية جديدة. كما عين كارولين ليفيت، التي ظهرت في مقاطع تدريبية ضمن المشروع، ناطقة باسم البيت الأبيض، وعيّن بريندان كار رئيسًا للجنة الاتصالات الفيدرالية، وهو من كتب فصلًا حول نفس اللجنة في المشروع.
تقويض الدولة الإدارية: تفكيك المؤسسات من الداخل
يُعتبر مشروع 2025، وفق ما أورده الباحثان ويل دوبس-أولسوب وجيمس غوودوين، مخططًا دقيقًا لإعادة تشكيل 20 وكالة اتحادية. ومن بين 532 إجراءً تنفيذيًا وردت في المشروع، نفذ ترامب بالفعل أو بدأ بتنفيذ 153 منها – أي نحو 29%. ويركز المشروع على تقويض ما يسمى بـ”الدولة العميقة” من خلال استبدال موظفي الخدمة المدنية المتمرسين بولاءات سياسية صرفة، وهو ما بدأ بالفعل عبر مرسوم تنفيذي في أبريل الماضي صنّف آلاف الوظائف الحكومية كوظائف سياسية.
على سبيل المثال، بدأ الرئيس الأميركي إجراءات تفكيك وزارة التعليم عبر توجيه وزير التعليم بإغلاق إدارات رئيسية فيها. كما ألغى وكالة التنمية الدولية، تنفيذًا لتوصية مباشرة من مشروع 2025.
السياسة المناخية والاجتماعية: العودة إلى الوراء
أوصى المشروع بإنهاء البرامج المرتبطة بتغير المناخ، وهو ما ترجمته إدارة ترامب بإلغاء عدد كبير من تلك المبادرات، إلى جانب الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ. كذلك دعا المشروع إلى إعادة هيكلة وزارة العدل، وتم ذلك بشكل عملي من خلال استخدام الوزارة لملاحقة خصوم ترامب السياسيين، وفقًا للمنتقدين.
أما على الصعيد الاجتماعي، فالمشروع يدعو صراحة إلى إنهاء برامج التنوع والشمول، وهو ما التزمت به إدارة ترامب بالكامل، حيث جرى إلغاء مبادرات تتعلق بالمساواة والهوية الجندرية. كما تم تقييد مشاركة المتحولين جنسيًا في الجيش والرياضة، وتقليص الوصول إلى الرعاية الصحية المؤكدة للنوع الاجتماعي.
الهجرة والحدود: تنفيذ بلا هوادة
فيما يتعلق بالهجرة، تبنى ترامب معظم توصيات المشروع، ومنها تسريع الترحيلات، والحد من تأشيرات الدخول القانونية، وتشديد ضبط الحدود. إلا أن ترامب ذهب أبعد مما ورد في النص، مثل استخدام “قانون الأعداء الأجانب” لمحاكمة مهاجرين، إضافة إلى مساعٍ لإلغاء حق المواطنة بالولادة، وهي إجراءات لم يتضمنها المشروع الأصلي.
وقد وقع أيضًا أمرًا تنفيذيًا يحمل الولايات عبءًا ماليًا أكبر في ما يخص الإغاثة من الكوارث، وذلك في انسجام مع رؤية المشروع حول ربط المساعدات بضبط الهجرة.
التوجه الإعلامي والثقافي: تفكيك المؤسسات العامة
استكمالًا لهذا التوجه، يقود بريندان كار – المعيّن من قبل ترامب لرئاسة لجنة الاتصالات – تحقيقات تهدف إلى تقليص أو إنهاء تمويل الإذاعة الوطنية العامة والتلفزيون العام، في تطبيق واضح لما ورد في الفصل الذي كتبه ضمن المشروع.
كما ظهرت خيوط “مشروع إستير”، أحد تفرعات “مؤسسة التراث”، في محاولات قمع الأصوات الداعمة لحقوق الفلسطينيين داخل الولايات المتحدة، بذريعة مكافحة معاداة السامية. ورغم أن المشروع أعد قبل الحرب الجارية في غزة، فإنه قدم أرضية قانونية لهذه الإجراءات التي توسعت في عهد ترامب.
الموجة القادمة: قوانين ولوائح جديدة
حتى الآن، استندت معظم الإجراءات إلى الأوامر التنفيذية، لكن الموجة القادمة ستتطلب تعديلات تنظيمية واسعة داخل الوكالات، وبعضها سيحتاج إلى تشريع من الكونغرس. ويُتوقع أن تدخل الإدارة مرحلة إلغاء التنظيمات والقوانين القديمة بشكل منهجي خلال الأشهر المقبلة، بعد أن ركزت الفترة الأولى على تعيين الكوادر وتنظيم الهيكل الإداري.
ويقول دوبس-أولسوب إن وتيرة التغيير سترتفع بعد مرور ستة أشهر أو عام، مع بدء مرحلة “الهدم التنظيمي” الكامل. وتذهب المؤرخة مانيتشا سينها إلى ما هو أبعد، محذرة من أن العودة إلى حالة ما قبل الدولة التنظيمية الحديثة قد تعيد أميركا إلى “عصر اللحوم الفاسدة والرصاص في مياه الشرب”، على حد وصفها.
مشروع 2025: امتداد لجذور جمهورية قديمة
ترى سينها أن “مشروع 2025” ليس انحرافًا، بل امتداد منطقي للخطاب الجمهوري الذي بدأ مع ريتشارد نيكسون وتكرس مع رونالد ريغان، والذي يقوم على شيطنة الحكومة، وتحميل الأقليات والمهاجرين والفقراء تبعات الفشل. وتقول: “الحزب الذي يكره الحكومة يدير الحكومة الآن”، مشيرة إلى أن الخط الفاصل بين التنظير والتنفيذ قد انهار تمامًا.
في الخلاصة، فإن ما حاول ترامب نفيه خلال حملته الانتخابية – أي تبنيه لمشروع 2025 – أصبح الآن واقعًا ملموسًا في إدارة تندفع بثقة نحو إعادة تشكيل الحكومة الأميركية، وفق قواعد جديدة لا تخفي عداءها للمؤسسات التقليدية، ولا تخجل من إعلان حرب شاملة على ما تبقى من الدولة الإدارية.