الوكالات

ترامب ومعركة الإعلام: قوة شكلية وخسارة محتملة للوطن

منذ دخوله البيت الأبيض، جعل دونالد ترامب الإعلام عدوه الأول وساحة معركته الأوسع. لم يتردد في استخدام كل الأدوات المتاحة لمحاولة كسر شوكة الصحافة، بدءًا من محاولاته إبعاد المذيع الساخر جيمي كيميل عن الشاشة، مرورًا برفع دعاوى قضائية بمليارات الدولارات ضد صحف بارزة مثل نيويورك تايمز، وصولًا إلى دفع رجال أعمال مقربين لشراء حصص في منصات مؤثرة مثل تيك توك. ورغم هذا الزخم، لم يحصد ترامب سوى انتكاسات متتالية: عودة كيميل لجمهوره، رفض المحاكم لدعاويه، وبقاء ولاء الأثرياء مشكوكًا فيه. ورغم ذلك، يواصل رهانه على إمكانية إخضاع الإعلام، مدركًا أن السيطرة على السرد الإعلامي قد تكون مفتاحًا لتعزيز نفوذه السياسي، حتى ولو جاء ذلك على حساب القيم الأمريكية الراسخة.

 

حرية التعبير تحت الاختبار

 

حرية الصحافة ليست مجرد بند دستوري في الولايات المتحدة، بل تعد جزءًا من الهوية الوطنية. أي محاولة لإخضاع الإعلام لا تعني فقط تقييد الأصوات الناقدة، بل تهدد بانهيار الثقة في الديمقراطية نفسها. صحيح أن السيطرة الجزئية قد تترك أثرًا في معارك انتخابية ضيقة، لكن المشهد الإعلامي الأمريكي بتنوعه وصلابته يصعب ترويضه. حتى أقسى الضغوط لم تمنع الصحف الكبرى من الاستمرار في تحدي السلطة، وهو ما يجعل معركة ترامب مع الإعلام تبدو وكأنها مواجهة طويلة الأمد محكومة بالفشل.

 

سلاح المال والتهديد

 

ترامب لم يكتفِ بالتصريحات النارية، بل لجأ إلى أدوات ملموسة للضغط على الإعلام. رفع دعاوى قضائية ضد صحف كبرى، قيد وصول المراسلين، ولوّح بسحب تراخيص قنوات انتقدته علنًا. كما استثمر في ملكية مباشرة عبر إطلاق منصته “Truth Social”، وبنى تحالفات مع رجال أعمال مؤثرين مثل إيلون ماسك وروبرت مردوخ، مع محاولات متكررة لمد نفوذه إلى شبكات عملاقة مثل CBS وCNN. إضافة إلى ذلك، خلق مناخًا من التخويف دفع شبكات مثل ABC وCBS إلى تسويات، خشية خسائر بمليارات الدولارات. هكذا حاول ترامب فرض هيمنته عبر المال والتهديد بدل الحوار والإقناع.

 

حين يتجاوز الصخب النفوذ

 

رغم كل الضوضاء التي يثيرها ترامب حول نفوذه الإعلامي، فإن الواقع أقل بريقًا. التلفزيون، الذي ظل لعقود المنصة الأبرز للتأثير السياسي، يتراجع أمام هيمنة الفضاء الرقمي. أما الصحف الكبرى، فقد أثبتت قدرة على مقاومة دعاواه والانتصار في ساحات القضاء. وفي المقابل، يبقى الفضاء الرقمي أوسع وأكثر تعقيدًا من أن يُختزل في منصة واحدة أو قرار تنظيمي. لذلك، فإن نفوذ ترامب على الإعلام لا يتجاوز حدود الصخب، بينما يظل التنوع الإعلامي الأمريكي عائقًا أمام أي محاولة للهيمنة المطلقة.

 

الخطر من داخل الإعلام

 

الخطر الحقيقي لا يتمثل في سيطرة ترامب على الإعلام، بل في استعداد المؤسسات الإعلامية نفسها للتورط في لعبة التهويل والانقسام لجذب الانتباه. حين تصبح الإثارة أولوية على حساب الدقة، تتراجع الحقائق المشتركة التي تُبنى عليها أي ديمقراطية فاعلة. ورغم أن أمريكا تجاوزت في الماضي مرحلة الصحافة الحزبية، فإن العودة إليها ليست مستبعدة. ومع تحول الساحة العامة إلى مسرح دائم للاستعراض والجدل، تجد الديمقراطية الأمريكية نفسها مثقلة بعبء جديد، يزيد من هشاشتها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

اقرأ أيضاً

خطة ترامب للسلام بين الأمل السياسي ونيران غزة

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى