الضربات الأمريكية على إيران تنقلب عكسيًا… لكن طريق السلام لم يُغلق بعد

منذ تنفيذ الولايات المتحدة وإسرائيل هجمات جوية وصاروخية على إيران في يونيو الماضي، لم تتحقق أي من الأهداف التي روّج لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لم تُدمّر المنشآت النووية الإيرانية بالكامل كما زُعم، ولم تتوقف طهران عن تخصيب اليورانيوم، ولم يسقط النظام كما دعا نتنياهو علنًا. على العكس، أظهر المرشد الأعلى علي خامنئي تحديًا أكبر، مستغلًا الموقف لشن حملة قمعية غير مسبوقة ضد المعارضين، تجسدت في تصاعد موجة الإعدامات.
الأمم المتحدة أكدت أن أكثر من 600 شخص أُعدموا هذا العام في إيران، ما يجعلها صاحبة أعلى معدل إعدامات للفرد عالميًا. منذ الضربات، بات جزء متزايد من الضحايا من السجناء السياسيين. أبرز الأمثلة كانت إعدام الناشطين السياسيين بهروز إحساني ومهدي حسني، اللذين اعتُقلا عام 2022 بتهم “التمرد” و“العداء لله”، وتعرضا للتعذيب وانتزاع اعترافات قسرية قبل محاكمة لم تتجاوز خمس دقائق. منظمة العفو الدولية ربطت إعدامهما مباشرة بالتصعيد العسكري الأمريكي-الإسرائيلي، واعتبرت ذلك مثالًا على استخدام السلطة القضائية الإيرانية للإعدام كأداة سياسية في أوقات الأزمات.
حملة قمع داخلية وتوظيف الأزمة
منذ يونيو، اعتُقل المئات في إطار حملة “كشف الجواسيس والمتعاونين” التي تقول السلطات إنها وراء اختراقات أمنية سمحت لإسرائيل باستهداف مواقع حساسة، من بينها اجتماع لمجلس الأمن القومي الإيراني أسفر عن إصابة الرئيس مسعود بزشكيان. بدلًا من محاسبة الأجهزة الأمنية على الإخفاقات، فضّل البرلمان الإيراني الدفع نحو توسيع استخدام عقوبة الإعدام، وسط أنباء عن مواجهة نحو 60 سجينًا سياسيًا خطر التنفيذ الفوري للأحكام.
ورغم أن الضربات أثارت موجة تعاطف وطني كان يمكن للسلطة استثمارها، فإن القمع المفرط أهدر تلك اللحظة، وزاد من مشاعر السخط الداخلي، خاصة مع إدراك الإيرانيين أن واشنطن ولندن وعواصم أوروبية أخرى تجاهلت الهجمات أو بررتها ضمنيًا.
انعكاسات سلبية على المشهد الدولي
الهجمات، التي قُتل فيها وفق تقارير أكثر من 935 شخصًا وأصيب ما يزيد على 5 آلاف – أغلبهم مدنيون – اعتُبرت خرقًا لميثاق الأمم المتحدة وللقانون الدولي، كما أكدت مجموعة “بريكس” التي تضم دولًا من “الجنوب العالمي”. وردًا عليها، علّقت طهران تعاونها مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما زاد من الانقسامات بين الولايات المتحدة وأوروبا، ورفع احتمال أن تسعى إيران فعلًا إلى امتلاك سلاح نووي ردعي.
إيران تصر على أنها لا تمتلك، ولا تسعى لامتلاك، أسلحة نووية، لكن غياب الدليل القاطع من جانب إسرائيل أو حلفائها لم يمنع اتخاذ قرار الهجوم بناءً على تقديرات غير مؤكدة. النتيجة: أضرار مادية واسعة، لكن من دون تغيير في قناعات القيادة الإيرانية التي أكدت استمرارها في تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية.
تشجيع النهج الأحادي وتعزيز المحاور الجديدة
الأثر غير المباشر ربما كان أخطر؛ إذ عززت الضربات شعور قوى كبرى مثل روسيا بأنها تستطيع استخدام القوة العسكرية ضد دول أخرى بلا تبعات جدية. كما دفعت إيران إلى تعميق تحالفاتها مع الصين، وأعطت ذريعة أكبر للتيار المتشدد داخل النظام لتعزيز سياسته القائمة على الحروب بالوكالة وعمليات الاستخبارات الخارجية، بما في ذلك ضد أهداف في بريطانيا، وهو ما يرسخ صورة طهران كدولة منبوذة دوليًا.
جذور الأزمة: أخطاء الغرب التاريخية
تاريخيًا، ما آلت إليه إيران يُعد من أكبر الإخفاقات الاستراتيجية الغربية. الدعم غير المشروط لشاه إيران ساهم في اندلاع ثورة 1979، وصعود رجال الدين المحافظين لم يكن حتميًا لولا سياسات واشنطن العقابية المستمرة منذ أزمة السفارة الأمريكية في طهران. أوروبا حاولت مرارًا لعب دور الوسيط، لكن انسحاب ترامب عام 2018 من الاتفاق النووي المبرم برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أعاد الأمور إلى نقطة الصفر، وأدى مباشرة إلى الوضع المتأزم الحالي.
نحو مقاربة مختلفة
في ظل هذه الأجواء الملبدة بالخوف والانتقام، يؤكد خبراء أن المسار الدبلوماسي لا يزال ممكنًا. وزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف اقترح اتفاقًا إقليميًا لمنع الانتشار النووي في الشرق الأوسط، وهو طرح يستحق النظر إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل جادتين في منع إيران من تطوير السلاح النووي.
لكن المصداقية تتطلب أن تبدأ الدولتان بتقليص ترسانتيهما النوويتين تدريجيًا، والتوقف عن إطلاق التهديدات بالهجوم، والالتزام بخطوات تبني الثقة. كما أن إعادة إحياء القنوات الدبلوماسية ورفع العقوبات تدريجيًا مقابل التزامات نووية واضحة قد يفتح الباب أمام تسوية شاملة تخفف من توتر الإقليم.
الخلاصة، أن الهجمات العسكرية التي استهدفت إيران لم تحقق أهدافها المعلنة، بل زادت الموقف تعقيدًا وأعطت دفعة قوية لأكثر الأصوات تشددًا في طهران. إذا أراد الغرب كسر هذه الحلقة، فعليه أن يبدل استراتيجيته من الضغط الأقصى إلى الانخراط السياسي الجاد، مع إدراك أن السلام المستدام لا يأتي من فوهة الصواريخ، بل من طاولة المفاوضات.