الوكالات

نساء أوكرانيا في الصفوف الأمامية: كيف تغيّر الحرب ملامح الجيش والمجتمع؟

نساء أوكرانيا في قلب المعركة: تحوّلات جذرية في الجيش والمجتمع تحت وطأة الحرب

على مقربة من جبهة زابوريجيا، تتوقف قائدة الوحدة المعروفة باسم “تويغ” برفقة فريقها المكوّن من خمس مجندات في مقهى صغير، ويطلبن مشروبات الموهيتو الخالية من الكحول. في الخلفية، تُسمع بين الحين والآخر دويّات المدفعية الأوكرانية وهي تطلق قذائفها نحو مواقع القوات الروسية. بالنسبة لزميلتها “تيتان”، كلمة “قتل” تحمل إيحاءات جنائية، لذا تفضل استخدام تعبير “تصفية الروس” للتعبير عن مهمتها القتالية. هذه الوحدة هي واحدة من عدد متزايد من فرق الطائرات المسيّرة التي تقودها النساء، في إشارة إلى التحولات الجذرية في أدوار النساء داخل الجيش الأوكراني.

 

الناشطة الأوكرانية ماريا بيرلينسكا، التي تدافع منذ سنوات عن حقوق المجندات، تؤكد أن “الجنس لا علاقة له بقيادة الطائرات المسيّرة”، مشيرة إلى أن التقنية الحديثة تقلّص الفوارق الجسدية التي كانت تُستَخدم لتبرير إقصاء النساء عن أدوار قتالية متقدمة.

 

أرقام متصاعدة رغم الحواجز

على عكس الكثير من الرجال الذين جرى استدعاؤهم للخدمة العسكرية بموجب قوانين التعبئة الإلزامية، جميع النساء في الجيش الأوكراني متطوعات. وتشير البيانات الرسمية إلى أن عددهن يبلغ نحو 100 ألف من أصل مليون عسكري، بينما تتمركز نحو 5,500 منهن على الخطوط الأمامية، يعملن كمسعفات وسائقات وعضوات في فرق مسيّرات وأدوار قتالية أخرى.

 

قبل الغزو الروسي الشامل عام 2022، كانت النساء يشكلن حوالي 15% من قوام القوات المسلحة. لكن مع تضاعف حجم الجيش، انخفضت النسبة المئوية رغم أن العدد الفعلي للمجندات تضاعف أكثر من مرتين.

 

أوكسانا غريغوريفا، المستشارة المعنية بشؤون النوع الاجتماعي في الجيش الأوكراني، تشير إلى أن النساء يشكلن الآن نحو 20% من طلاب المدارس والجامعات العسكرية، وهي قفزة كبيرة إذا ما قورنت بالوضع قبل عام 2018، حين لم يكن مسموحًا لهن الالتحاق بهذه المؤسسات أو تولي أدوار قتالية محددة.

 

إصلاحات تشريعية وتحديات ثقافية

القوانين الأوكرانية تشهد تعديلات لتشديد مكافحة التحرش الجنسي في صفوف القوات المسلحة، لكن كاترينا بريماك، رئيسة منظمة “فيترانكا” المدافعة عن حقوق المجندات، تقول إن إزالة العوائق القانونية لا تعني زوال الحواجز الثقافية والاجتماعية التي تعيق تقدم النساء.

 

تجربة الرقيب ألينا شوخ، وهي رياضية محترفة سابقة في مسابقات السباعي، تعكس هذه التحديات. فقد رُفض طلبها للانضمام إلى كتيبة “آزوف” بحجة عدم وجود وظائف للنساء، قبل أن تجد فرصة في كتيبة “خارطيا” الأكثر انفتاحًا. شوخ تؤكد أنها أقوى بدنيًا من كثير من زملائها الرجال، لكن الأهم، كما تقول، هو أن التطورات التكنولوجية غيّرت قواعد الحرب: “اليوم قد يكون أفضل مقاتل هو طيّار مسيّرة صغيرة يتمتع بمهارة في التحكم أكثر من القوة الجسدية”.

 

تحولات تقودها التكنولوجيا

القائدة أولها بيهار، التي تدير وحدة مدفعية، ترى أن التكنولوجيا تقلب المفاهيم التقليدية رأسًا على عقب. بالنسبة لها، المعيار في ساحة المعركة لم يعد يعتمد على العضلات، بل على القدرة على استخدام الأدوات الحديثة بمهارة. وهي لا تخفي طموحها السياسي، إذ تأمل أن تصبح يومًا وزيرة للدفاع.

 

ماريا بيرلينسكا كانت من أوائل من كشفوا، عبر مشروع بحثي حمل اسم “كتيبة غير مرئية”، عن أن كثيرًا من النساء قاتلن في جبهات القتال منذ 2014 رغم القوانين التي كانت تمنعهن من ذلك، وكان يتم تسجيلهن رسميًا كطاهيات أو عاملات نظافة لتجاوز القيود. بالنسبة لها، كل حرب في التاريخ أدت إلى تقدم تكنولوجي، لكنها أيضًا أسهمت في تعزيز دور النساء وإفساح المجال لهن في مجالات كانت مغلقة سابقًا.

 

مسألة التجنيد الإلزامي للنساء: نقاش مؤجل

رغم اتساع مشاركة النساء في الجيش، لم تُطرح بعد على الساحة السياسية الأوكرانية مسألة تجنيدهن إلزاميًا. الخبير ييفين هليبوفيسكي من “معهد فرونتير” يرى أن القيادة الأوكرانية تخشى أن يفسر الروس فتح هذا النقاش كعلامة ضعف استراتيجي، لكن مع النقص المتزايد في أعداد المجندين قد يصبح الأمر غير قابل للتجاهل مستقبلًا.

 

مقاومة داخلية وصور نمطية

على الرغم من هذه التغيرات، لا تزال هناك مقاومة من بعض القيادات الميدانية. ففي مركز قيادة قرب بلدة كوميشفاخا، يعمل ثمانية رجال يرتدون قمصانًا رياضية ونعالًا، يتابعون شاشات بث مباشر للطائرات المسيّرة، بينما يزين الجدار خلفهم ملصق لامرأة عارية تحمل سيفًا. وعندما سُئل قائدهم عن سبب غياب النساء في وحدته، أجاب بلغة حادة أن “الجبهة ليست مكانًا للنساء”.

اقرأ أيضاً…

بريطانيا تُعزز صناعتها الدفاعية وتُقلص الاعتماد على الولايات المتحدة

ما بعد الحرب: إرث اجتماعي محتمل

التجربة التي تعيشها أوكرانيا اليوم تحمل في طياتها بذور تغيير عميق في المجتمع. إذا استمر هذا المسار، فقد تصبح مشاركة النساء في الجيش أمرًا عاديًا، وربما يتجاوز أثره حدود المؤسسة العسكرية ليعيد تشكيل أدوار الجنسين في الحياة العامة والسياسة والاقتصاد.

الحرب التي فُرضت على أوكرانيا لا تعيد فقط رسم حدود الدولة، بل تعيد أيضًا تعريف معنى المساواة بين الجنسين  في أكثر ساحات العمل قسوة — ساحة المعركة.

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى