“ترامب والنمو الأمريكي: إصلاحات هيكلية لتعزيز الإنتاجية في ولايته الثانية”
ترامب يواجه لحظة اقتصادية فارقة في ولايته الثانية

مع انطلاقة ولايته الثانية، يواجه الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب لحظة اقتصادية فارقة تتطلب إعادة ضبط البوصلة نحو نمو طويل الأمد ومستدام. فبعد تمرير “مشروع القانون الكبير والجميل” وإبرام صفقات تجارية مع اليابان والفلبين، حان الوقت للتفكير في سياسات هيكلية تُطلق العنان للإنتاجية، وتُعالج التشوهات التي تعيق التنقل والاستثمار والابتكار. فوفقًا لخبير الاقتصاد والتمويل في جامعة كولومبيا، غلين هوبارد، فإن التركيز على تحفيز الإنتاجية الكلية للعوامل – أي النمو الناتج عن الكفاءة وليس عن زيادة مدخلات العمل أو رأس المال فقط – يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في مستويات الدخل، ويمهّد لتحقيق استقرار مالي مستقبلي.
الأرقام التي يقدمها مكتب الميزانية في الكونغرس مثيرة: رفع الإنتاجية بنسبة 0.5% سنويًا على مدى 30 عامًا قد يزيد دخل الفرد الأمريكي بنسبة تقارب 20%، ويخفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 42%. لكن تحقيق هذا السيناريو يتطلب رؤية سياسية طموحة لا تكتفي بالتقشف أو التحفيز المؤقت، بل تعمل على إزالة العوائق البنيوية أمام النمو، من الإسكان والبيروقراطية، إلى الهجرة والبحث العلمي.
إصلاح التصاريح: كسر القيود أمام الطاقة والتكنولوجيا
تُعد عملية التصاريح البيروقراطية واحدة من أبرز العقبات أمام مشاريع البنية التحتية والطاقة في الولايات المتحدة. ومع ازدياد الحديث عن طفرة الذكاء الاصطناعي التوليدي، يبرز تساؤل مهم: هل البنية التنظيمية الحالية قادرة على مواكبة الابتكارات؟ الواقع أن القيود المفروضة على بناء خطوط نقل الكهرباء – رغم فوائدها المعلنة من وزارة الطاقة – تمنع توسيع الشبكات الحيوية. ومن هنا، يمكن لـ”لجنة تنظيم الطاقة الفيدرالية” أن تتولى الصلاحيات من السلطات المحلية، بما يسرّع تنفيذ المشاريع. المثال الأبرز هو الإعفاءات التي حصلت عليها مشاريع أشباه الموصلات ضمن قانون “تشيبس”، والتي أثبتت فعاليتها في تسريع الإنشاءات. والرسالة واضحة: الإصلاح التنظيمي شرط لنقل التكنولوجيا من المختبر إلى السوق.
سوق الإسكان: الإصلاح الزاحف الذي قد يحرّر النمو
يُجمع الاقتصاديون على أن سوق الإسكان الأمريكية تعاني من تشوّه كبير في التوازن بين العرض والطلب، لا سيما في المناطق الحضرية ذات الإنتاجية العالية. فارتفاع أسعار الإيجارات وتكاليف البناء، المقترن بقيود في قوانين استخدام الأراضي، يحد من قدرة الأفراد على الانتقال إلى الأماكن التي تتوفر فيها فرص العمل. ويُظهر بحث حديث أن تحرير سياسات الإسكان في سبع مدن كبرى يمكن أن يرفع الناتج المحلي الأمريكي بنسبة تقترب من 8% على المدى الطويل. ورغم أن قوانين الإسكان تُسن غالبًا على المستوى المحلي، إلا أن الحكومة الفيدرالية تملك أدوات قوية: مثل ربط تمويل البنية التحتية الفيدرالي بإصلاحات في قوانين البناء والتقسيم، أو تعديل قواعد دعم الإسكان المنخفض الدخل لتشترط تبني سياسات مشجعة للبناء.
الكهرباء والذكاء الاصطناعي: علاقة غير مرئية لكنها حاسمة
الطموحات الاقتصادية التي يربطها البعض بانتشار الذكاء الاصطناعي تصطدم بعقبة غير تقليدية: الكهرباء. فأنظمة الذكاء الاصطناعي، خاصة الكبيرة منها، تعتمد على مراكز بيانات ضخمة تستهلك كميات هائلة من الطاقة. وفي غياب بنية تحتية كهربائية مرنة، تصبح قدرات الابتكار محصورة جغرافيًا أو مكلفة للغاية. ولهذا، فإن التوسع في خطوط النقل الكهربائية والاعتماد على مصادر طاقة موثوقة يمثل ركيزة للثورة التكنولوجية المنشودة. على ترامب أن يدرك أن الذكاء الاصطناعي لن ينمو في فراغ تنظيمي، بل يحتاج إلى بيئة طاقية مستقرة.
الاستثمار في البحث العلمي: عائد يفوق التكلفة
في زمن التنافس العالمي على الابتكار، لا يزال التمويل الفيدرالي للبحث والتطوير في الولايات المتحدة دون المستويات المطلوبة. وتشير دراسات عديدة إلى أن الاستثمار الحكومي في الأبحاث الأساسية يحقق عوائد إنتاجية تفوق تكلفته، بما يجعل هذا الإنفاق يكاد يكون “ذاتي التمويل” من خلال الإيرادات الضريبية الإضافية الناتجة عن النمو. ومع أن إدارة ترامب قد خفّضت سابقًا بعض مخصصات البحث، إلا أن إعادة النظر في هذا التوجه ضرورية الآن، خاصة إذا كان الهدف بناء قاعدة صناعية متقدمة ومستقلة عن المنافسين الاستراتيجيين مثل الصين.
الهجرة الماهرة: مورد بشري لا غنى عنه
من بين المقترحات التي قد تثير جدلاً في أوساط قاعدة ترامب الانتخابية، تأتي دعوة هوبارد إلى زيادة الهجرة عالية المهارة، خاصة عبر توسيع نطاق تأشيرات H-1B. فالمهندسون والعلماء والمبرمجون الأجانب لا يساهمون فقط في سد فجوات سوق العمل، بل يخلقون وظائف ويؤسسون شركات ويزيدون الإنتاجية. ويتطلب الأمر فصل ملف الهجرة الاقتصادية عن النقاش الأمني والسياسي المحيط بالهجرة غير النظامية. فدول مثل كندا وألمانيا تتقدم بسرعة في هذا المجال، بينما قد تفقد الولايات المتحدة ميزتها التاريخية إذا بقيت منغلقة على نفسها.
النمو لا يحل كل شيء… لكنه الشرط الأساسي
يشير هوبارد بوضوح إلى أن النمو الاقتصادي ليس هدفًا كافيًا بحد ذاته، لكنه شرط لازم لتحقيق أهداف أخرى: زيادة الدخل، استدامة المالية العامة، وتجديد الحراك الاجتماعي. في ظل تحديات مثل الشيخوخة السكانية وتزايد عبء الدين، يصبح تحقيق معدلات نمو أعلى هو الوسيلة الوحيدة الواقعية لتجنب رفع الضرائب أو خفض الإنفاق بشكل مؤلم. ولذلك، فإن تبني حزمة إصلاحات تركز على الإنتاجية لا على التحفيز المالي هو الخطوة الأكثر عقلانية في هذه المرحلة من ولاية ترامب.
لحظة القرار: هل ينتهز ترامب الفرصة؟
الرئيس ترامب أمامه فرصة نادرة لإطلاق موجة إصلاحات اقتصادية هيكلية تعيد تموضع أمريكا على خريطة النمو العالمي. لقد أثبتت التجربة أن التحفيز وحده لا يكفي، وأن الاستثمار في البنية التحتية البشرية والتنظيمية والتكنولوجية هو الطريق الأسلم نحو مستقبل مزدهر. والسؤال المطروح الآن ليس هل نعرف ما يجب فعله؟ بل: هل نملك الإرادة السياسية لفعل ذلك؟