الاقتصاد

طموحات أوروبا لبناء "إيرباص" جديد في كل قطاع تواجه تحديات عميقة

تجارب أوروبا في توحيد الصناعات الوطنية بين النجاح والانتكاسات

في كل مؤتمر صناعي بأوروبا اليوم، يُطرح حلم إنشاء “إيرباص” جديدة في كل قطاع، من الذكاء الاصطناعي والأسمدة إلى السيارات الصغيرة والحوسبة السحابية. يستند هذا الطموح إلى نجاح نموذج “إيرباص” الذي تأسس في السبعينيات حين توحدت شركات طيران أوروبية صغيرة لتتوقف عن التنافس الداخلي، فتمكنت من منافسة شركة بوينغ الأمريكية. واليوم يسعى قادة الاتحاد الأوروبي إلى تكرار هذا النجاح في مجالات جديدة مثل الرقائق والبطاريات والبث الرقمي، لكن التحديات السياسية والاقتصادية قد تجعل الهبوط أقرب من الإقلاع.

أوروبا الموحدة اقتصادياً… لكنها منقسمة شركاتياً

رغم التقارب الاقتصادي والتكامل النظري في أوروبا، لا تزال الشركات الكبرى في كل دولة تعمل بمعزل عن بعضها البعض. فلكل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا شركاتها الوطنية في قطاعات الطاقة والاتصالات والبنوك والسيارات. ويرجع البعض هذا الانقسام إلى عدم اكتمال السوق الأوروبية الموحدة، بينما يرى آخرون أن قوانين المنافسة تمنع عمليات الدمج الكبرى، كما حدث عندما رفضت بروكسل دمج شركتي “سيمنس” و”ألستوم” في 2019. والنتيجة أن أوروبا قوة اقتصادية كبيرة تمثل سدس الناتج العالمي، لكنها تفتقر إلى شركات كبرى ضمن أكبر 20 شركة في العالم من حيث القيمة السوقية.

أبطال عابرون للحدود… ولكن بحذر

شهدت أوروبا بعض النجاحات في عمليات الدمج العابرة للحدود، مثل اندماج شركة “بيجو” الفرنسية مع “فيات” الإيطالية لتشكيل مجموعة “ستيلانتيس”. كما تتعاون شركات من دول مختلفة في إنتاج المقاتلات والصواريخ. لكن الطموح الحالي يتجاوز مجرد الدمج. فشركة “إيرباص” كانت مشروعًا سياسيًا بامتياز، واليوم يرغب السياسيون في بروكسل وبرلين وباريس في استنساخ هذه التجربة في قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا النظيفة وأشباه الموصلات والمحتوى الرقمي.

عودة تدخل الدولة… بأسلوب فرنسي

لطالما كانت السياسات الصناعية النشطة ممنوعة في الاتحاد الأوروبي، خاصة منذ الثمانينيات، حيث فرض الألمان بمساعدة البريطانيين سابقًا نموذج السوق الحرة، بينما استبدلت فرنسا تدخلها بالدعم الزراعي. لكن هذا التوازن بدأ يتغير. صعود الصين كمنافس قوي، خروج بريطانيا من الاتحاد، جائحة كورونا، وحرب أوكرانيا دفعت باتجاه سياسة اقتصادية جديدة تعتمد على “الاستقلال الاستراتيجي” وتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية. اليوم، لا يرغب أحد في الاعتماد على أمريكا لتوريد المقاتلات أو الخدمات السحابية.

استثناءات متعددة ونتائج متفاوتة

بدأ الاتحاد الأوروبي بالسماح بمساعدات مالية كبيرة للقطاعات الاستراتيجية مثل البطاريات والرقائق والهيدروجين. وتحاول شركات مثل “إيرباص” و”تاليس” الفرنسية و”ليوناردو” الإيطالية – التي تملكها الدولة جزئيًا – دمج أنشطتها في إطلاق الأقمار الصناعية ضمن مشروع يسمى “إيرباص الفضاء”. إلا أن هذه السياسات لا تؤتي دائمًا نتائج إيجابية. فقد أعلن مشروع “نورثفولت”، الذي كان يُنظر إليه على أنه “إيرباص البطاريات”، إفلاسه رغم تلقيه 15 مليار دولار تمويلًا، وفشل مشروع “غايا-إكس” الذي كان يُفترض أن يكون “إيرباص الحوسبة السحابية” في منافسة عمالقة أمريكيين مثل أمازون ومايكروسوفت.

الحلم بين التعاون والتحديات الواقعية

تصريحات مثل “عندما نتعاون بدلًا من التنافس، نحقق الريادة العالمية”، التي أطلقها مدير “إيرباص” الحالي، تعكس النوايا الطيبة، لكن قطاع الطيران يختلف عن التكنولوجيا الحديثة. فتكاليف تصميم الطائرات مرتفعة وثابتة، والطلب عليها مستقر لعقود، بينما تتغير التكنولوجيا الحديثة بسرعة ولا تحتاج إلى استثمارات ضخمة مسبقة، مما يجعل تكرار نجاح نموذج إيرباص صعبًا في بيئات سريعة التطور.

خزائن فارغة وقيود مالية تحجم الدعم

رغم رغبة السياسيين الأوروبيين في دعم صناعاتهم كما تفعل الصين، إلا أن الواقع المالي لا يسمح بذلك. فمعظم دول الاتحاد – ما عدا ألمانيا – مثقلة بالديون وتواجه ضغوطًا متزايدة على الإنفاق الدفاعي. لذلك، تتجه الدول إلى حماية صناعاتها عبر تنظيمات وحواجز جمركية بدلًا من الدعم المالي المباشر، مثل فرض رسوم على السيارات الكهربائية الصينية وفرض ضريبة كربونية على بعض الواردات قريبًا. المرحلة القادمة هي بناء “أبطال أوروبيين” يستحقون هذه الحماية، بينما سيدفع المستهلكون الثمن لاحقًا، خاصة بعد مغادرة صناع القرار الحاليين الساحة السياسية.

علياء حسن

علياء حسن صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى