لماذا تمكين الأعمال هو “اللحظة المضيئة الحقيقية” لأفريقيا؟

خطة ربط 300 مليون أفريقي بالكهرباء طموحة — لكنها تقوم على افتراضات خاطئة
يشير الكاتب ديفيد بيلينغ إلى أن رقمًا واحدًا ظلّ ثابتًا بشكل يبعث على القلق منذ أكثر من 15 عامًا: 600 مليون أفريقي ما زالوا يعيشون في الظلام بلا كهرباء.
ورغم التقدم في مناطق أخرى من العالم النامي، فإن أفريقيا اليوم تمثل 80% من إجمالي سكان العالم المحرومين من الطاقة الكهربائية، بحسب وكالة الطاقة الدولية.
خطة دولية ضخمة… لكن الفرضية مضلّلة
في العام الماضي، أطلقت البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي، بالتعاون مع مؤسسات أخرى، مبادرة بقيمة 90 مليار دولار تهدف إلى توصيل الكهرباء إلى 300 مليون شخص في أفريقيا جنوب الصحراء بحلول عام 2030.
ورغم أن الهدف نبيل، إلا أن طريقة التفكير خلف المشروع — بحسب خبراء — قد تؤدي إلى نتائج عكسية.
يرى الاقتصادي موسى بليمبو، أستاذ جامعة تورونتو وأحد أبرز الباحثين في مجال كهربة أفريقيا، أن المبادرة المعروفة باسم “Mission 300” بدأت من النهاية لا من البداية. فهي تركز على إيصال الكهرباء إلى الفقراء سواء استطاعوا دفع تكلفتها أم لا — وهي وصفة مؤكدة لخلق دعم حكومي غير مستدام، ومؤسسات كهرباء مثقلة بالديون، وحكومات منهكة ماليًا.
ويقول بليمبو إن الصواب هو البدء بالعكس تمامًا: جعل الكهرباء وسيلة لتحفيز التنمية وخلق الوظائف، بحيث يصبح بإمكان الناس تحمل تكلفتها بسعر السوق بعد أن تتحسن دخولهم.
الكهرباء كأداة تنمية لا كمنحة اجتماعية
الفكرة الجوهرية هنا ليست فنية، بل تنموية. فالتنمية لا تبدأ بتوزيع الموارد على الجميع بشكل متساوٍ، بل بخلق بيئة اقتصادية نشطة تمكّن الناس من تحسين أوضاعهم.
يقول بليمبو:
“حين نحاول حل كل المشكلات دفعة واحدة، نفقد التركيز ونُضعف الأثر. الأجدى هو تمكين الأعمال، لا توزيع الكهرباء بالمجان.”
ويضرب مثالًا بـجنوب أفريقيا، التي عانت في السنوات الماضية من انقطاعات متكررة بسبب سوء إدارة شركة الكهرباء الحكومية Eskom. وقد كلّفت هذه الانقطاعات الاقتصاد نحو 235 مليون دولار يوميًا نتيجة توقف المصانع وتعطل النقل وتلف المواد الغذائية.
لكن بمجرد أن أعادت الحكومة استقرار شبكة الكهرباء في المدن والمصانع، تحسّن الأداء الاقتصادي بشكل ملموس — وهو إنجاز كان أهم بكثير من توسيع شبكة فاشلة إلى مناطق نائية لا تستطيع دفع ثمن الطاقة.
الواقعية الاقتصادية قبل العدالة الاجتماعية
قد تبدو فكرة “الكهرباء لمن يقدر على دفعها أولًا” قاسية، لكنها — كما يوضح بيلينغ — تعكس المنطق الذي تبنّته الاقتصادات الناجحة عبر التاريخ.
فحتى الاقتصادي الحائز على نوبل أنغوس ديتون كتب في كتابه The Great Escape أن التنمية تبدأ دائمًا بعدم المساواة: بعض الناس يستفيدون أولًا، لكن هذا التفاوت هو ما يدفع عجلة النمو لاحقًا.
وكذلك فعل دنغ شياو بينغ في الصين حين جعل شعار الإصلاح الاقتصادي: “دع البعض يثرى أولًا”، لتتحول الصين من دولة فقيرة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
أوهام “الطاقة الصغيرة الجميلة”
تركّز مبادرة Mission 300 على الطاقة المتجددة والمشروعات الصغيرة خارج الشبكة (Off-grid)، وهي مقاربة إنسانية في ظاهرها، لكنها تقوم على منطق “صغير وجميل” الذي يفترض أن ملايين الأسر الفقيرة التي تستخدم مصابيح شمسية صغيرة يمكن أن تُحدث قفزة اقتصادية جماعية.
لكن كما يقول الباحث كين أوبالو من جامعة جورجتاون:
“الاعتماد على رواد أعمال صغار يستهلكون كيلوواطات محدودة لن يرفع اقتصاد القارة إلى مستوى جديد.”
فالتحول الحقيقي يحدث عندما تستخدم الشركات الكبرى والمصانع الطاقة لتوليد الإنتاج وفرص العمل والضرائب.
بمعنى آخر، الطاقة ليست هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة لتمكين الأعمال التي تُنتج الثروة وتخلق وظائف وتزيد الطلب على الكهرباء من جديد — في دورة اقتصادية سليمة.
أفريقيا بحاجة إلى التفكير الكبير
ترى التجارب العالمية الناجحة — من كوريا الجنوبية إلى فيتنام — أن الطريق إلى التنمية لا يمر بالمشروعات الصغيرة فقط، بل عبر الاستثمار في البنية التحتية الكبرى، والتصنيع، والتعليم التقني، وربط الكهرباء بالنمو الإنتاجي.
وحين تُبنى قاعدة اقتصادية قوية، لن يختار أحد البقاء في الظلام، لأن القدرة على دفع فواتير الكهرباء ستكون نتيجة طبيعية للرخاء وليس عبئًا إضافيًا على الحكومات.
الخلاصة: الضوء الحقيقي ليس في المصباح، بل في المصنع
الرهان على كهربة الفقراء قبل خلق بيئة اقتصادية مولدة للدخل يخلط بين الوسيلة والغاية.
اللحظة المضيئة الحقيقية لأفريقيا لن تأتي من “توزيع الكهرباء”، بل من تمكين الأعمال التي ستجعل الكهرباء ضرورة اقتصادية لا منحة إنسانية.



