الاقتصاد

“المستقرة” غير المستقرة: هل تعيد العملات الرقمية إنتاج أزمة 2008؟

أزمة مالية محتملة في الأفق: العملات المشفرة وتأثيرها على الاقتصاد الأمريكي

تبدو الولايات المتحدة على أعتاب أزمة مالية جديدة، وهذه المرة ليست بسبب البنوك التقليدية أو الرهون العقارية، بل بسبب الأصول الرقمية، وتحديدًا العملات المشفرة المستقرة (Stablecoins). في مقالها المنشور حديثًا، تحذر الكاتبة الأمريكية رنا فوروهار من تداعيات التغلغل المتسارع للعملات المشفرة في النظام المالي الأمريكي، مستندة إلى تطورات تشريعية وسياسية خطيرة، مثل تمرير ما يُعرف بـ “قانون العبقرية” (Genius Act)، الذي يحظى بدعم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، رغم معارضة بعض الأصوات التحذيرية من داخل الكونغرس.

وبينما يُروّج للقانون على أنه وسيلة لتنظيم العملات المستقرة وضمان شفافيتها من خلال ربطها بالدولار الأمريكي، ترى فوروهار أن هذا التوجه ما هو إلا تكرار للأخطاء التاريخية التي سبقت الأزمة المالية في 2008، عندما استُخدمت شعارات “الابتكار المالي” و”تنظيم الأسواق” كغطاء لتمرير قوانين أتاحت فوضى المشتقات المالية ومهدت لانهيار الأسواق. واليوم، يبدو أن المشهد يعيد نفسه، لكن هذه المرة تحت لافتة “التنظيم الذكي للعملات الرقمية”.

المقال يربط بين النفوذ السياسي المتصاعد للوبي العملات المشفرة، والانقسام السياسي العميق في واشنطن، والأثر المحتمل لهذه السياسات على الاقتصاد الأمريكي والمجتمع بأكمله، متسائلاً: هل نحن بصدد أزمة جديدة، أكثر تعقيدًا من سابقاتها، يقودها تحالف المال والسياسة؟

 

1. العملات المشفرة: من هامش السوق إلى قلب النظام المالي

حين بدأت العملات المشفرة كفكرة تكنولوجية تهدف إلى تقليل الاعتماد على البنوك المركزية، لم يكن يخطر ببال أحد أنها ستصبح يومًا جزءًا من الاقتصاد الحقيقي. لكن اليوم، مع إعلان مؤسسات مالية كبرى مثل “جي بي مورغان” نيتها تقديم قروض مضمونة بضمانات مشفرة، يتضح أن العملة الرقمية لم تعد تجربة على الهامش، بل مشروعًا تتبناه النخبة المالية الأمريكية. المشكلة، وفقًا لفوروهار، تكمن في أن هذه الأصول لا تزال شديدة التقلب، ومثقلة بالارتباطات مع النشاطات غير القانونية، من غسيل أموال إلى تمويل الإرهاب، فضلاً عن افتقارها لأي قيمة إنتاجية حقيقية.

 

2. المال السياسي: كيف اخترق لوبي العملات المشفرة واشنطن؟

تُشير الكاتبة إلى أن الأموال الضخمة التي ضخها لوبي العملات المشفرة في الحملات الانتخابية – والتي تُقدّر بعشرات الملايين – كان لها تأثير كبير في تمرير قوانين داعمة للتكنولوجيا المالية. فقد نجح هذا اللوبي في كسب تأييد ليس فقط من الجمهوريين، بل من شخصيات ديمقراطية مؤثرة مثل السيناتور مارك وورنر وكيرستن جيليبراند. في المقابل، فشلت أصوات مثل السيناتور إليزابيث وارن – المعروفة بمواقفها المناهضة للوول ستريت – في وقف زحف هذا التيار. لقد أصبح المال السياسي أداة رئيسية في تطويع التشريعات لخدمة مصالح الأثرياء، مما يهدد بتكرار سيناريوهات تاريخية أليمة.

 

3. أزمة 2008 تعود بثوب رقمي

تُحذر فوروهار من تشابه كبير بين ما يحدث اليوم وبين ما جرى قبيل الأزمة المالية في 2008، عندما تم تمرير “قانون تحديث السلع الآجلة” (CFMA) الذي سهّل التوسع في أدوات مالية غير منظمة كالمشتقات. النتيجة كانت كارثية حينها. واليوم، نجد أن “قانون العبقرية” يُسوّق كتشريع لتنظيم العملات المستقرة، في حين أنه قد يفتح الباب لاضطرابات أكبر بكثير في الأسواق. فإذا تم دمج الأصول الرقمية في عمليات الإقراض والتداول والرهونات، فإن أي انهيار في قيمة هذه الأصول سيؤثر فورًا على النظام المالي التقليدي، كما حدث مع أزمة الرهون العقارية.

 

4. المخاطر الكامنة في ربط العملات المستقرة بالدولار

رغم أن العملات المستقرة يُروّج لها على أنها أكثر أمانًا من باقي أنواع العملات المشفرة لأنها مربوطة بالدولار بنسبة 1:1، إلا أن فوروهار ترى في ذلك خداعًا بصريًا. فالسوق الرقمي بأكمله يبقى هشًا ومتقلبًا، والارتباط بالدولار لا يُلغي حقيقة أن المضاربة والفشل في تغطية الالتزامات قد يؤديان إلى انهيار شامل. الأسوأ، أن هذه العملات أصبحت تحتفظ بكميات ضخمة من سندات الخزينة الأمريكية، مثل شركة “تيذر”، مما يعني أنه في حال حدوث عمليات سحب جماعي، قد تُضطر هذه الكيانات إلى بيع سنداتها بشكل سريع، ما يؤدي إلى رفع تكاليف الاقتراض الحكومي.

 

5. ماذا يحدث إذا ارتفعت أسعار الفائدة فجأة؟

في ظل تقلب السياسة النقدية الأمريكية، يُحتمل أن يضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة لكبح التضخم. هنا، تحذر فوروهار من سيناريو خطير: إذا تهاوت الأسواق التقليدية نتيجة رفع الفائدة، فستنهار العملات المشفرة بوتيرة أسرع، نظرًا لحساسيتها المفرطة للتقلبات. وإذا كانت المؤسسات المالية – الرسمية وغير الرسمية – تحتفظ بكميات من هذه الأصول، فقد نشهد أزمة سيولة شبيهة بما حدث في 2008، حيث تجف أسواق الائتمان ويبدأ تسلسل الانهيارات، لكن هذه المرة دون أدوات فعالة للتدخل السريع.

 

6. من أزمة مالية إلى أزمة ديمقراطية

الخطر الأكبر، وفق فوروهار، لا يكمن فقط في الانهيار الاقتصادي، بل في الارتداد السياسي المترتب عليه. ففي حال وقوع أزمة جديدة يشعر فيها المواطن العادي بأنه يُجبر مرة أخرى على إنقاذ الأغنياء والمضاربين، فإن هذا سيدفع نحو مزيد من الغضب الشعبي، ويفتح الباب أمام عودة أشكال متطرفة من الشعبوية السياسية. لقد رأينا هذا السيناريو بعد 2008، حين فقدت شرائح واسعة من الطبقة الوسطى الثقة بالحزب الديمقراطي، مما مهّد لصعود ترامب. اليوم، ومع تورط شخصيات من كلا الحزبين في دعم “الابتكار الرقمي”، فإن شعور الخيانة قد يصبح أوسع وأكثر عمقًا.

 

7. ترامب والعملات المشفرة: تحالف مصالح لا يعبأ بالعواقب

تشير فوروهار بوضوح إلى أن الرئيس السابق – والحالي في التأثير – دونالد ترامب يدعم العملات المشفرة ليس فقط سياسيًا بل كمستثمر مباشر فيها. وهذا ما يُضفي طابعًا شخصيًا على الدعم الجمهوري الكبير للتشريعات المؤيدة للعملات الرقمية. وعندما يكون الدافع سياسيًا وانتخابيًا ومصلحيًا، فإن النتائج تكون دومًا مدمرة. فإذا اندلعت أزمة ناتجة عن المضاربة بالعملات المشفرة في ظل إدارة تفتقر إلى رؤية تنظيمية ناضجة، فإن النتائج لن تقتصر على الاقتصاد بل ستمتد إلى تقويض ما تبقى من شرعية المؤسسات الديمقراطية.

 

8. النهاية المحتملة: “لا عملة” ولا “استقرار”

في ختام مقالها، تختزل فوروهار المخاوف في عبارة بليغة: “لا عملة، ولا استقرار”. فإذا استمرت هذه السياسات، فإن ما يُروّج له كوسيلة لتعزيز النظام المالي، قد يتحول إلى قنبلة زمنية موقوتة. العملات المشفرة لن تكون وسيلة للديمقراطية المالية، بل أداة لتكريس التفاوت، وزيادة عدم الثقة، وتهديد الاقتصاد العالمي الذي لا يزال هشًا بعد صدمات متتالية. والأسوأ أن كل ذلك يحدث في لحظة تراجعت فيها قدرة الدولة الأمريكية على التدخل، وتضاءل فيها الإجماع السياسي المطلوب لتفادي الكوارث.

اقرأ أيضاً

النيابة تحذر من منصات الاستثمار الوهميه: قضايا متكررة تكشف مخططات نهب المواطنين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى