لماذا لا تغيّر النقاشات آراءنا؟ وكيف تتشكل القناعات فعلًا؟
العلاقات والتجارب أقوى من الحجج والمناظرات في تغيير المواقف السياسية.

قد يبدو من الغريب أن يقال هذا في مقال رأي، لكن لا بد من الاعتراف: تبادل الحجج والمعلومات لا يكفي لتغيير قناعات الناس. ورغم ذلك، لا نزال نتعامل مع النقاش العقلي وكأنه الأداة الوحيدة للإقناع، بينما الحقيقة أن هذا التصور الخاطئ يعوق طرقًا أكثر فاعلية للتأثير السياسي.
خلل في فهم الإقناع السياسي
كباحثة في علم النفس السياسي، لاحظت أن هناك ارتباكًا عامًا في فهمنا لكيفية تشكّل القناعات السياسية. فبينما ينشغل الإعلام والمحللون بقضايا مثل الأخبار الكاذبة والاستقطاب، يركزون غالبًا على الكلمات ويتجاهلون العوامل الاجتماعية والنفسية الأعمق.
المناظرات لا تغيّر شيئًا
المناظرات الانتخابية، رغم كونها من أبرز أحداث الحملات السياسية، غالبًا ما تكون عديمة التأثير على قناعات الناخبين. دراسة شملت 56 مناظرة في 22 انتخابات بين عامي 1952 و2016 أظهرت أن تأثيرها يكاد يكون معدومًا. بل وحتى تحليلات أُجريت عام 2012 أكدت أن تأثير هذه المناظرات على النتائج الفعلية ضعيف جدًا.
التنافر المعرفي: العقل يرفض التناقض
من الأسباب النفسية الرئيسية التي تفسّر مقاومة التغيير هو “التنافر المعرفي”؛ أي الشعور بعدم الراحة حين تتعارض المعلومات الجديدة مع المعتقدات القديمة. في محاولة لتخفيف هذا التوتر، نميل إلى تبرير معتقداتنا أو تحوير المعلومة الجديدة لتتماشى مع ما نؤمن به.
مثال: تغيّر مواقف مؤيدي ترامب
بعد إدانة دونالد ترامب في 2024، تغيّرت مواقف أنصاره بشكل لافت. فبينما كان 17% فقط من ناخبي الحزب الجمهوري يرفضون تولّي المجرمين للرئاسة قبل الإدانة، ارتفعت النسبة إلى 58% يرون العكس بعدها. لم يتغير الواقع، بل تغيّر الموقف ليتماشى مع الولاء السياسي.
التحيّز موجود لدى الجميع
هذه الظاهرة لا تقتصر على أنصار ترامب فقط، بل هي سلوك بشري عام. يميل الناس لتكييف آرائهم بما ينسجم مع تصرفاتهم أو انتماءاتهم الاجتماعية.
العلاقات والتجارب: محرّكات التغيير الحقيقية
تشير الأبحاث إلى أن القناعات تتأثر بشدة بالعلاقات الاجتماعية والتجارب الحياتية، أكثر من تأثرها بالحجج النظرية. فمثلًا، تُظهر دراسات أن القرب من الآخرين المختلفين، كالزملاء أو الجيران، يغيّر مواقفنا دون نقاش، فقط من خلال التفاعل اليومي.
نظرية الاتصال الاجتماعي وتقليد الآخرين
وفق “نظرية الاتصال الاجتماعي”، فإن التفاعل مع أفراد من خلفيات مختلفة يقلل من التحيز. وهذا ما يفسّر التحوّل في مواقف الناس حول قضايا مثل حقوق المثليين. كما أن قراراتنا البيئية تتأثر بما يفعله جيراننا أكثر من تأثرها بالحملات الإعلامية أو الحوافز المالية.
تجارب الحياة تغيّر العقول
حتى التجارب الشخصية المفروضة يمكن أن تغيّر قناعاتنا. مثلًا، النساء اللواتي مُنعن من إجراء إجهاض أصبحن أقل دعمًا لحقوق الإجهاض، كرد فعل داخلي لتبرير ما حدث. والأمر ذاته يحدث مع من يعيشون كوارث مناخية؛ فهم يصبحون أكثر إيمانًا بخطورة التغير المناخي.
السياسة ليست مجرد كلمات
في مقابل هذا كله، تبدو النقاشات السياسية سطحية الأثر. ومع ذلك، تظل المؤسسات السياسية والإعلامية تركز على الحديث والنقاش فقط، متجاهلة أهمية بناء علاقات وتجارب مشتركة تؤدي لتغيير أعمق وأدوم.
بناء بنية تحتية للعلاقات
ما نحتاجه هو توفير فضاءات تشجع على التفاعل الاجتماعي، مثل الحدائق العامة، ومراكز الانتظار، والنقابات. هذه الأماكن تساعد الناس على التلاقي، والتعاون، وتكوين علاقات تؤسس لتغيير حقيقي في القناعات.
التفكير السياسي الجيد يبدأ من المجتمع
التفكير السياسي السليم لا يعني الانعزال لتفكير “مستقل”، بل يعني الانخراط في حياة اجتماعية نشطة، مليئة بالعلاقات المتنوعة والتجارب الجديدة. لكن الواقع اليوم – في ظل الفقر والعزلة – يجعل ذلك أكثر صعوبة، مما يؤدي إلى ضعف في النسيج الاجتماعي ويزيد من الانغلاق والتعصب.
اليمين المتطرف واستغلال الفراغ الاجتماعي
في المقابل، استفادت قوى اليمين المتطرف من هذا الفراغ، فبنت شبكات دعم اجتماعي قوية تمنحها تأثيرًا واسعًا، حتى مع تدهور الأوضاع المعيشية.
كيف يربح التقدميون؟
إذا أراد التقدميون الفوز، فعليهم استعادة الموارد والنفوذ ليس فقط لبناء حملات إعلامية، بل لبناء بيئة تتيح للناس توسيع آفاقهم، والانفتاح على تجارب وأشخاص جدد.
وأخيرًا: لا تتوقع أن تقتنع بكلامي
كما ذكرت في البداية، لا أظن أن هذا المقال سيغيّر رأيك. لكنني أدعوك لتجربة بسيطة: كوّن صداقة مع شخص يختلف معك سياسيًا، أو جرّب أسلوب حياة جديد. ربما تتغير أفكارك… أو تعيد فهم السياسة من جذورها.