الوكالات

الخفافيش البريطانية: قصة نجاح في الحفظ تثير غضب الحكومات والمطورين

الخفافيش تُوقف الإسكان: انتصار بيئي يثير الجدل في بريطانيا

رغم صورتها النمطية المرتبطة بالسحر والرعب، وغياب جماهيرية حقيقية تدافع عنها، فإن الخفافيش في بريطانيا أصبحت اليوم واحدة من أبرز قصص النجاح في مجال حماية الحياة البرية. هذه الكائنات الليلية الصغيرة، التي طالما اعتبرها الناس مزعجة أو غريبة، باتت تفرض سطوتها بهدوء على قرارات الإسكان والمشاريع الكبرى – لا بفضل محبيها، بل بسبب قوة القانون خلفها.

 

أصوات ليلية تُبشّر بالانتعاش البيئي

عند غروب الشمس في خزان هانينغفيلد في مقاطعة إسيكس، يبدأ نوع غير مألوف من الضجيج في ملء المكان: نقرات إلكترونية صادرة من أجهزة ترصد ترددات الخفافيش، وأصوات نقرات العدّ اليدوي بأيدي المتطوعين. هؤلاء يتابعون خروج مئات الخفافيش من مبنى قديم، عددها تضاعف في سنوات قليلة من 500 إلى أكثر من 2000. هذا المشهد ليس استثناءً، بل انعكاس لاتجاه عام: الخفافيش البريطانية تزداد عددًا وقوة، على عكس الطيور التي تواصل التراجع.

 

قوانين بيئية… تقيد الإسكان وتنقذ الخفافيش

تعزو الإيكونوميست هذا الانتعاش إلى القوانين البيئية الصارمة التي جعلت إزالة مستعمرات الخفافيش أمرًا شبه مستحيل. فالخفافيش حيوانات تعيش لعقود، وتتكاثر ببطء شديد – غالبًا بفرخ واحد سنويًا. لذا فإن هدم موطن رئيسي واحد قد يعيد النوع سنوات إلى الوراء. هذه الحماية القانونية جعلت من الصعب على المطورين المضي قدمًا في مشروعاتهم، بل إن بعض المناطق الريفية باتت “رهينة” لمستعمرة خفافيش صغيرة.

 

سحر وقصص مصاصي الدماء: إرث ثقافي سلبي

لطالما ارتبطت الخفافيش بالأساطير السوداء والسحر في الثقافة الغربية. من ساحرات شكسبير إلى دراكولا برام ستوكر، كانت هذه الكائنات تجسيدًا للغموض والخطر. حتى أن افتتان الفيكتوريين بالخفافيش مصاصة الدماء في أمريكا اللاتينية ساهم في تعزيز صورتها المشوهة. ورغم أن الواقع يثبت جمالها وسلوكها المعقد، لا تزال الخفافيش تُصنّف ضمن “الكائنات المنفرة” لدى الرأي العام.

صورة مقرّبة لخفاش بأذنين كبيرتين وهو يتغذّى على يرقة، تُبرز ملامحه الغريبة ودوره المهم في التوازن البيئي.

أبطال من الظل: كيف تفرض الخفافيش إرادتها على مشاريع الدولة؟

في واحدة من أشهر الحالات، اضطرت الحكومة البريطانية إلى تخصيص أكثر من 100 مليون جنيه إسترليني لبناء “هيكل حماية للخفافيش” فوق مشروع السكك الحديدية الفائق السرعة HS2 في باكينغهامشير. كما تعرقل مستعمرات خفافيش نادرة بناء طرق رئيسية في مقاطعة نورفولك، بينما يستخدم معارضو إعادة تطوير مجمعات سكنية في ثيتفورد صناديق الخفافيش كوسيلة قانونية لعرقلة التنفيذ.

 

هجوم سياسي مضاد… بقيادة الحكومة

تجد الحكومة البريطانية هذا الوضع غير مقبول، خصوصًا في ظل خطط النمو الاقتصادي. وزيرة المالية راشيل ريفز دعت المطورين إلى “التوقف عن القلق بشأن الخفافيش والسمادل”، في إشارة إلى الكائنات المحمية التي تعطل مشاريع البنية التحتية. مشروع قانون جديد في البرلمان يسعى إلى تخفيف حماية الخفافيش والكائنات الأخرى، عبر السماح بتدمير مواطنها مقابل دفع رسوم تُستخدم لتعويض الضرر في أماكن أخرى. منظمات الحفاظ على الطبيعة ترى في ذلك “رخصة للقتل”.

معركة غير متكافئة: قانون قوي وجمهور ضعيف

رغم الحماية القوية في القانون، فإن الخفافيش لا تحظى بعدد كافٍ من المؤيدين الشعبيين. جمعية حماية الخفافيش البريطانية تضم فقط 5410 عضوًا، مقارنة بـ1.2 مليون عضو في جمعية حماية الطيور الملكية. هذا الفارق الضخم في الدعم الشعبي يجعل من السهل على السياسيين مهاجمة حماية الخفافيش دون تبعات سياسية، على عكس الطيور التي يحظى أي تهديد لها باهتمام إعلامي وجماهيري كبير.

اقرأ أيضاً

12 مليون قذيفة كورية شمالية لدعم روسيا: تحالف السلاح في وجه العقوبات والعزلة

التكنولوجيا كجسر بين البشر والخفافيش

رغم العزلة الثقافية، قد تفتح التكنولوجيا بابًا جديدًا للتقارب مع الخفافيش. أجهزة “كاشف الخفافيش” باتت أرخص وأكثر دقة، وتسمح للمستخدمين بالتعرف على الأنواع المحيطة بهم وتحويل الأصوات فوق السمعية إلى أنماط بصرية ساحرة. هذا الاندماج بين العلم والمتعة يقرّب الناس من هذه الكائنات الغامضة. فمعرفة سلوك نوع مثل بيبستريل الذي يطير على مستوى الأشجار، أو دوبنتون الذي يصطاد الحشرات بمهارة من فوق سطح الماء، قد تولّد تعاطفًا جديدًا ودافعًا للحماية.

التكنولوجيا تقرّب البشر من الخفافيش وتزيد تعاطفهم معها.

حين تحكم الخفافيش… بدون أن تنطق

ما يحدث في بريطانيا اليوم هو مفارقة بيئية نادرة: كائنات صامتة، غير محبوبة، نجحت في فرض سطوتها على مشاريع عملاقة، ليس بقوة جماهيرية أو شعبية، بل عبر بنود في قوانين قديمة. وبينما تسعى الحكومات لتقييد هذه القوانين، يبقى السؤال مطروحًا: هل ينجو القانون من الهجمة؟ وهل تبقى الخفافيش الحارسة الصامتة للطبيعة، أم أنها ستكون الضحية القادمة في معركة الإسكان والتنمية؟

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى