فايننشال تايمز: زيلينسكي تحت “لحظة الضغط الأقصى”: صراعات الداخل وتأثيرها على موقف أوكرانيا في الخارج

يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تحديًا غير مسبوق على جبهتين: داخليًا، بعد أزمة سياسية حادة نتجت عن محاولة قمع مؤسسات مكافحة الفساد، وخارجيًا، حيث يضطر للتعامل مع محادثات قمة ألاسكا بين الولايات المتحدة وروسيا من بعيد، وسط مخاوف من ضغوط أمريكية محتملة على كييف لقبول اتفاقات مجحفة. تأتي هذه المرحلة الحرجة بينما تتعرض خطوط الدفاع الأوكرانية لضغط متزايد من القوات الروسية، مما يجعل موقف زيلينسكي الهش على الساحة الداخلية له انعكاس مباشر على قدرته على حماية مصالح بلاده في المفاوضات الدولية. ويُنظر إلى هذه المرحلة بأنها “لحظة الضغط الأقصى” للرئيس، إذ تجتمع فيها العوامل السياسية، العسكرية والدبلوماسية لتشكل اختبارًا حقيقيًا لقدراته القيادية.
الأزمة الداخلية: صدام زيلينسكي مع مؤسسات مكافحة الفساد
بدأت الأزمة في يونيو عندما تم استدعاء الوزير أليكسِي تشيرنيشوف، المسؤول عن وحدة توحيد جهود العودة الطوعية للمهجرين الأوكرانيين، للتحقيق بتهم سوء استخدام المنصب واستلام رشاوى كبيرة، وفقًا للتحقيقات التي أجرتها هيئة مكافحة الفساد الوطنية (NABU). حاول زيلينسكي حماية حليفه ومنع محاكمته، بل ووفّر له حراسة من الحدود إلى العاصمة. هذا القرار أثار جدلاً واسعًا، إذ اعتبره مراقبون محاولة للسيطرة على مؤسسات مستقلة، مما أدى إلى حملة انتقادات حادة من المجتمع المدني والأحزاب السياسية الأوروبية. البرلمان الأوكراني أقر مشروع قانون لتضع مؤسسات مكافحة الفساد تحت إشراف الرئيس، مما أثار حفيظة المواطنين وأدى إلى احتجاجات واسعة، أجبرت زيلينسكي لاحقًا على التراجع واستعادة استقلالية المؤسسات، لكنه فقد كثيرًا من مصداقيته الإصلاحية في الداخل.

فقدان الثقة الشعبية: نتائج الحملة ضد NABU وSAPO
الحملة ضد مؤسسات مكافحة الفساد تركت أثرًا ملموسًا على شعبية الرئيس. أظهرت استطلاعات الرأي تراجع ثقة الجمهور به من 65٪ في يونيو إلى 58٪ في يوليو، بعد سلسلة من الفضائح المرتبطة بحماية الحلفاء المتهمين بالفساد. هذا التراجع يعكس كيف أن أي تحركات غير مدروسة داخلية يمكن أن تؤثر مباشرة على قدرة الرئيس على اتخاذ قرارات استراتيجية في الشؤون الخارجية. ويشير المحللون إلى أن انخفاض الدعم الشعبي يجعل زيلينسكي أقل قدرة على فرض سياسات أو التفاوض على صفقات معقدة دون مواجهة معارضة قوية من البرلمان والمجتمع المدني.

القمة الأمريكية-الروسية في ألاسكا: ضغوط من الخارج
في الوقت الذي كانت فيه أوكرانيا تمر بأزمة داخلية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، غياب زيلينسكي عنها وضعه في موقف حرج. أرسل ترامب مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف لإجراء محادثات تمهيدية مع بوتين، تاركًا للرئيس الأوكراني تساؤلات حول ما قد يكون قد وعد به ترامب روسيا في مقابل وقف الحرب. التوقعات تدور حول احتمال فرض “تبادلات أرضية” على أوكرانيا، بما في ذلك مناطق في دونيتسك وخيرسون وزابوريجيا، وهي مناطق يحتلها الروس جزئيًا، مما يجعلها خطوط حمراء بالنسبة لزيلينسكي.
ضغوط قانونية ودستورية على زيلينسكي
زيلينسكي محاصر ليس فقط داخليًا وإنما أيضًا قانونيًا. الدستور الأوكراني يحظر التنازل عن أي جزء من الأراضي الوطنية دون موافقة البرلمان، بينما تفتقر الحكومة إلى القدرة على فرض أي تغيير في حدود البلاد بالقوة التنفيذية وحدها. هذا يضع الرئيس أمام صعوبة التوفيق بين الضغوط الأمريكية المحتملة والحاجة إلى الالتزام بالقانون والشرعية الوطنية، مما يزيد من تعقيد موقفه أمام الشركاء الدوليين ويحد من مرونته في المفاوضات.

الضغوط العسكرية: تحديات على خطوط القتال
على الأرض، تواجه القوات الأوكرانية أصعب اللحظات في العام الحالي، مع تقدم روسي سريع بالقرب من مدينة دوبروبليا في منطقة دونيتسك. التقدم الروسي الأخير بلغ حوالي 15 كيلومترًا خلال أيام قليلة، مما أثار مخاوف من إمكانية حدوث اختراق كبير في الدفاعات الأوكرانية، على الرغم من تصريحات زيلينسكي والقيادات العسكرية التي حاولت تقليل حجم الخسائر. ويؤكد المحللون العسكريون أن الوضع في الخطوط الأمامية، رغم عدم وجود انهيار وشيك، يضع زيلينسكي تحت ضغط إضافي، إذ قد يُستغل أي ضعف للضغط على أوكرانيا لقبول شروط سلام مجحفة.

استراتيجية زيلينسكي الدبلوماسية: محاولة السيطرة عن بُعد
في غياب المشاركة المباشرة في القمة، اعتمد زيلينسكي على بناء شبكة دعم من حلفاء أوروبا الغربية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، لتأكيد موقفه بشأن عدم التنازل عن الأراضي وحماية سيادة أوكرانيا. هدفه كان توجيه الضغط على ترامب عبر الحلفاء الأوروبيين لتجنب أي اتفاقيات قد تُعرض أوكرانيا لمساومات غير عادلة. هذه الاستراتيجية، رغم أهميتها، تبقى محدودة التأثير أمام محاولات روسيا والولايات المتحدة تشكيل النتائج بشكل أحادي، مما يعكس هشاشة موقف زيلينسكي على الصعيد الدولي.
التحديات المستقبلية: الحفاظ على السيادة والثقة الداخلية
مع استمرار الحرب، يواجه زيلينسكي تحديًا مزدوجًا: الحفاظ على ثقة الشعب في الداخل وحماية السيادة الوطنية في الخارج. أي تنازل أو اتفاق يُرى أنه غير عادل قد يفاقم الأزمة السياسية، خاصة في ظل الانقسام الداخلي وفقدان الثقة الشعبية. البرلمان الأوكراني أصبح أكثر تحفظًا بعد تجربة تشريع السيطرة على مؤسسات مكافحة الفساد، وهو ما يجعل أي اتفاق دولي مع روسيا يحتاج إلى دعم واسع ومبرر دقيق أمام الرأي العام، وإلا قد يؤدي إلى أزمة شرعية جديدة.
معركة البقاء السياسي والدبلوماسي
وضع الرئيس الأوكراني يعكس ما يمكن تسميته بـ”اللحظة الحرجة القصوى” لممارس السياسة خلال الحرب: مواجهة ضغوط داخلية متنامية، خطوط دفاعية تحت التهديد، ومحادثات دولية تُدار بدون مشاركته المباشرة. قدرة زيلينسكي على المناورة الدبلوماسية والتواصل مع المجتمع الدولي ستكون مفتاحًا لتجنب تكرار سيناريو 2014–2015 حين أُجبرت أوكرانيا على شروط سلام غير مواتية بعد خسائر كبيرة. ويظل السؤال الكبير: هل يستطيع الرئيس الأوكراني تجاوز أزماته الداخلية وتحقيق موقف تفاوضي قوي يحمي بلاده من أي اتفاقية قد تُفرض عليها؟