
في ذروة أحد الاجتماعات الداخلية الافتراضية بمقر هيئة الإذاعة البريطانية “BBC”، حيث توقّع الجميع أن تتركز النقاشات على الأجور وخطط التسريح، فاجأ الموظفون مديرهم العام تيم ديفي بسؤال مباشر:“لماذا ترفض المؤسسة بث فيلم وثائقي طال انتظاره عن المسعفين في غزة؟”
سؤال لم يكن عابرًا، بل كشف عن انقسام داخلي حاد داخل واحدة من أعرق مؤسسات الإعلام العالمية، وسط موجة انتقادات تتعلق باتهامات التحيز في تغطية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وثائقي محظور يثير عاصفة في أروقة المؤسسة
الفيلم الوثائقي Gaza: Doctors Under Attack كان من المفترض أن يُعرض عبر منصة BBC، حيث يوثق الاستهداف المباشر للعاملين في القطاع الصحي داخل غزة.
لكن المفاجأة تمثلت في تأجيله ثم إلغائه نهائيًا، بالتوازي مع فتح تحقيق داخلي في فيلم آخر بعنوان Gaza: How to Survive a Warzone، بعد أن تبيّن أن الطفل الراوي في الفيلم هو نجل قيادي في حركة حماس.
قرار الإلغاء أثار غضبًا واسعًا بين صفوف العاملين، ووصفه البعض بأنه دليل على انحياز واضح في قرارات التحرير. أحد الموظفين صرّح: “أخجل من الإفصاح عن مكان عملي بسبب موقف المؤسسة من تغطية الأحداث في غزة.”
تيم ديفي في مواجهة أسئلة محرجة
خلال الاجتماع، تلقى تيم ديفي ثلاثة أسئلة مباشرة من موظفيه، عبّرت عن حجم القلق الداخلي. أحدهم قال:
“أحب عملي، لكني لا أستطيع إخبار الآخرين أنني أعمل في BBC خوفًا من الجدل.”
بينما تساءل آخر:
“هل تدركون أن قرار التأجيل أضرّ بمصداقيتنا في تغطية القصص الفلسطينية؟”
لكن ديفي لم يقدم إجابة حاسمة، واكتفى بالإشارة إلى “تعقيد القرارات المتعلقة بغزة”، ما فُسِّر بأنه مراوغة لتجنّب تبعات سياسية أو قانونية محتملة.
اقرأ ايضا:
تصعيد العدوان الإسرائيلي على غزة: عشرات الشهداء والجوع يتفاقم وسط حصار خانق
قناة Channel 4 تحتضن الوثائقي بعد رفض BBC
بعد جدل طويل، ألغت BBC عرض الوثائقي بالكامل وأعادت ملكيته إلى شركة الإنتاج المستقلة Basement Films، والتي أعلنت أن الفيلم سيُعرض عبر قناة Channel 4.
هذا القرار عزز الشعور بين العاملين والمراقبين بأن BBC لم تعد قادرة على تحمّل مسؤولية عرض قصص إنسانية مؤلمة إذا تعلقت بالشأن الفلسطيني.
تحقيقات داخلية واستقالات محتملة
حاليًا، يُجري قسم المعايير التحريرية في BBC تحقيقًا حول فيلم How to Survive a Warzone، ومن المتوقع صدور نتائجه خلال أسابيع. مصادر من داخل المؤسسة توقعت “تطاير رؤوس”، في إشارة إلى قرارات إدارية حاسمة قد تطال منتجين وكبار المحررين.
BBC العربية… تحت المجهر
الخدمة العربية في BBC لم تكن بعيدة عن الأزمة، إذ وُجهت اتهامات لبعض صحفييها بنشر آراء شخصية عبر حساباتهم على وسائل التواصل، ما دفع الإدارة للتأكيد على “الالتزام الصارم بالسياسات التحريرية” والتلويح بعقوبات على أي تجاوز.
في المقابل، قال موظفون إن بعض أقسام المؤسسة تعمل بـ”عقلية منفصلة” عندما يتعلق الأمر بالصراع في الشرق الأوسط، مما أثار مخاوف متزايدة حول غياب التوازن التحريري داخل BBC.
مهرجان غلاستنبري يُشعل مزيدًا من الجدل
في تطور موازٍ، اندلع جدل آخر بعدما بثّت BBC عرضًا غنائيًا لفرقة Bob Vylan تضمّن هتاف “الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي”، بينما منعت بث حفلة فرقة Kneecap بعد اتهام أحد أعضائها بالتلويح بعلم حزب الله.
مراقبون رأوا في هذه القرارات تناقضًا في المعايير التحريرية، ما عمّق من حالة التوتر داخل المؤسسة وأثار تساؤلات حول استقلاليتها التحريرية.
أزمة ثقة تهدد واحدة من أعرق المؤسسات الإعلامية
يقول روجر موسي، المدير السابق لأخبار التلفزيون في BBC، إن المؤسسة لا تزال تحتفظ بطاقم مهني قوي، لكن إلغاء تغطيات توثيقية مهمة عن غزة يُعد إخفاقًا لا يمكن تبريره بسهولة.
من جهتهم، يرى بعض المسؤولين في BBC أن تعرض المؤسسة لاتهامات بالانحياز من كلا الطرفين يعني أنها “تسير في المنتصف”، لكن هذا التفسير لم يعد مقنعًا لعدد متزايد من الموظفين والمشاهدين على حد سواء.
ماذا بعد؟
التحقيقات الجارية وتقرير “المراجعة الموضوعية” المرتقب صدوره قريبًا قد يحددان شكل التغطية التحريرية للـBBC في قادم الأيام، وربما يعيدان النظر في آليات صنع القرار داخلها.
لكن يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن إصلاح الضرر الذي أصاب صورة BBC عالميًا، أم أن الثقة التي تهتز اليوم قد لا تُستعاد بسهولة؟