لعنة الحرب على غزة.. إسرائيل تواجه نزيف الهجرة

تعيش إسرائيل واحدة من أصعب مراحلها منذ عقود، حيث تتكشف آثار حربها المستمرة على قطاع غزة وما تخلّفه من تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية. فبينما يواجه الفلسطينيون يوميًا قصفًا وحصارًا خانقًا، بدأت إسرائيل بدورها تشهد نزيفًا بشريًا غير مسبوق يتمثل في تزايد معدلات الهجرة. أرقام صادمة نشرتها مكاتب الإحصاء الرسمية تكشف أن ميزان الهجرة بات سلبيًا لأول مرة منذ سنوات طويلة، مع ارتفاع عدد المغادرين وتراجع أعداد القادمين. هذا التحول لا يقتصر على الأرقام فحسب، بل يعكس حالة فقدان ثقة المجتمع الإسرائيلي في مستقبل الدولة، وسط انقسامات سياسية متفاقمة، أزمات اقتصادية خانقة، وتراجع غير مسبوق في شعور الأفراد بالأمن الشخصي.
نزيف سكاني يتسارع
كشف تقرير لمكتب الإحصاء المركزي في إسرائيل أن 79 ألف شخص غادروا البلاد خلال العام الماضي، ليصل صافي ميزان الهجرة إلى 23 ألفًا بالسالب، في مؤشر مقلق لصانعي القرار. ووفق التقرير، بلغ عدد السكان نحو 10.1 ملايين نسمة، بينهم 7.7 ملايين يهودي بنسبة 78.5%، وحوالي 2.1 مليون عربي بنسبة 21.5%، إضافة إلى 260 ألف أجنبي. الأرقام أظهرت بوضوح أن أعداد المغادرين تفوق الوافدين، وهو ما أثار نقاشات حادة في الأوساط الإسرائيلية حول مستقبل التركيبة السكانية وقدرة الدولة على استيعاب تداعيات الحروب المتواصلة على بنيتها الاجتماعية والاقتصادية.
تحذيرات الخبراء من مستقبل قاتم
الخبير الديموغرافي سيرجيو ديلا بيرجولا أكد أن ميزان الهجرة السلبي يعد سابقة نادرة في تاريخ إسرائيل، إذ لم يشهد البلد مثل هذا الوضع إلا أربع مرات خلال المئة عام الأخيرة. وأوضح أن عام 2024 مثّل نقطة تحول خطيرة، بعدما أجبرت الحرب على غزة عشرات الآلاف على مغادرة إسرائيل بحثًا عن الأمان. بيرجولا أوضح أن الظاهرة لافتة خصوصًا مع ارتفاع نسبة المهاجرين من غير اليهود، الذين يشكلون نحو نصف إجمالي المغادرين. هؤلاء غالبًا قدموا إلى إسرائيل بموجب “قانون العودة”، لكنهم وجدوا أنفسهم في بيئة تفتقر للأمن وتخنقهم القيود والمخاوف الاقتصادية.
الهجرة العكسية بعد حرب أوكرانيا
تشير البيانات إلى أن جزءًا من المغادرين هم ممن استقروا في إسرائيل بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. هؤلاء جاؤوا بحثًا عن ملاذ آمن، لكنهم اصطدموا بواقع أكثر تعقيدًا: حرب مستمرة ضد الفلسطينيين، أزمة اقتصادية خانقة، وتصاعد المخاوف الأمنية. كثيرون منهم اختاروا العودة إلى بلدانهم الأصلية أو البحث عن وجهات جديدة أكثر استقرارًا. في عام 2023، على سبيل المثال، غادر نحو 55 ألف إسرائيلي بينما استقبلت الدولة 27 ألفًا فقط. هذا الميل التصاعدي يؤكد أن إسرائيل تتحول تدريجيًا إلى بيئة طاردة للسكان، تتسارع فيها وتيرة الهجرة العكسية عامًا بعد عام.
إسرائيل تتحول إلى بيئة طاردة
خلال عام 2024، بلغ عدد المغادرين أكثر من 82 ألفًا، في مقابل استقبال 31 ألف مهاجر فقط، وفق مكتب الإحصاء. هذه المعطيات تؤكد أن الحرب على غزة والعدوان على الضفة الغربية انعكسا بشكل مباشر على الداخل الإسرائيلي. ومع تزايد الانقسامات السياسية بين الأحزاب وتفاقم الضغوط الاقتصادية بفعل الكلفة الباهظة للحرب، يشعر كثير من الإسرائيليين أن بلادهم لم تعد قادرة على توفير الاستقرار المطلوب. التحولات السكانية هذه لا تعكس مجرد حركة أرقام، بل تعبر عن أزمة هوية وشرعية تضرب الدولة في عمقها، وتجعلها أكثر هشاشة في مواجهة تحديات المستقبل.
انعدام الأمن وتراجع الثقة
استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت بوضوح حجم فقدان الثقة لدى الإسرائيليين. ففي استطلاع أجرته صحيفة “معاريف” عام 2024، قال 49% فقط إنهم يشعرون بالأمان في أماكن سكنهم. فيما كشف استطلاع آخر لـ”يديعوت أحرونوت” أن 20% من اليهود يفكرون في مغادرة إسرائيل إذا توفرت لهم الإمكانيات المالية. الأرقام تكشف أيضًا أن نحو 67% من الإسرائيليين يؤيدون وقف الحرب على غزة، ما يوضح أن استمرار العمليات العسكرية لا يفقد إسرائيل جنودها فحسب، بل يدفع أيضًا مواطنيها إلى التفكير في ترك البلاد، بحثًا عن حياة أكثر استقرارًا في الخارج.
مأزق وجودي يهدد إسرائيل
تزايد معدلات الهجرة، فقدان الشعور بالأمن، وضغوط الحرب الاقتصادية والسياسية، كلها عوامل تصنع مأزقًا وجوديًا لإسرائيل. فمنذ “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، لم تعد الدولة قادرة على إقناع مواطنيها بأنها مكان آمن أو صالح للاستقرار طويل الأمد. هذه التحولات تعكس صورة مغايرة لما كانت تحاول إسرائيل تسويقه عن نفسها كـ”دولة ملاذ” لليهود، فإذا بها تتحول إلى بيئة طاردة تدفع مواطنيها للهروب. المستقبل يبدو أكثر تعقيدًا، حيث تتقاطع التحديات الداخلية مع الضغوط الإقليمية والدولية، لتضع إسرائيل أمام أزمة بنيوية قد تحدد ملامح وجودها في السنوات المقبلة.