عربي وعالمي

لماذا تواجه قضايا الدفاع صعوبة في الترويج وسط تغيّرات السياسة البريطانية المتسارعة

تكرار مراجعات الدفاع وتراجع الثقة العامة يشكلان تحديات كبرى أمام حزب العمال

 

بات من الملاحظ أن مراجعات السياسات الدفاعية وإعادة تشكيل توجهات السياسة الخارجية في بريطانيا تحدث بوتيرة متسارعة تكاد تكون موسمية، كما لو أنها تقليد دوري يشبه إطلاق عائلة ساسيكس لعلامتها التجارية. فقد أطلقت حكومة حزب العمال هذا الأسبوع مراجعة استراتيجية جديدة في ملف الدفاع، رغم أن المحافظين سبق وقدموا ورقة بيضاء شاملة في يوليو 2023، والتي كانت بدورها تحديثًا لمراجعة بوريس جونسون الطموحة في مارس 2021. في ظل هذا التكرار السريع، يصعب تصوّر أن مراجعة كير ستارمر ووزير دفاعه جون هيلي ستُحدث أثرًا بارزًا مع حلول ثلاثينيات القرن الحالي.

حق العمال في تقديم رؤيتهم… لكن العالم لا ينتظر

من الطبيعي أن يسعى حزب العمال إلى طرح تصوره الخاص في ملف الدفاع. وقد استعان بفريق مراجعة مكوّن من شخصيات بارزة مثل جورج روبرتسون وريتشارد بارونز وفيونا هيل، الذين عملوا باستقلالية نسبية. ومع ذلك، بات من سمات العقد الحالي أن يُعاد رسم السياسات الدفاعية باستمرار، وكأن الاستراتيجيات الطويلة الأجل فقدت جدواها في عالم متغير. فكما قال الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور: “الخطط لا تفيد في الحرب، لكن التخطيط ضروري”.

التهديدات المتصاعدة والحاجة للتجديد

لم تعد الحرب مجرد احتمال نظري، بل باتت التهديدات واقعية ومتسارعة، مدفوعة بتطور التكنولوجيا العسكرية بوتيرة مقلقة. ولهذا، أصبحت الحاجة إلى تجديد السياسات الدفاعية أمرًا ملحًا. إلا أن مراجعة حزب العمال الأخيرة لم تنجح تمامًا في إقناع الرأي العام بقدرتها على مواكبة هذا التحدي. رغم تركيزها على مواجهة التهديد الروسي ومجابهة عصر الطائرات المسيّرة والهجمات السيبرانية، فإن اعتمادها المطلق على التحالف مع الولايات المتحدة بدا كأنه تغافل عن تغير موازين القوى العالمية.

الغائب الأكبر: دونالد ترامب

عندما أطلق بوريس جونسون مراجعة عام 2021، كان يسعى لصياغة سياسة خارجية لبريطانيا بعد البريكست، رغم أنها تضمنت رؤى غير واقعية مثل “الانفتاح على آسيا”. لكنها التقطت مبكرًا خطورة التهديد الروسي، وهو ما بقي في أذهان حكومة ستارمر. ومع ذلك، لم تتنبأ بالمستجدات الكبرى مثل جائحة كوفيد، أو الغزو الروسي لأوكرانيا، أو عودة دونالد ترامب إلى المشهد السياسي. والمثير للاستغراب هو غياب اسم ترامب تمامًا عن المراجعة الجديدة المؤلفة من 140 صفحة، وكأن حزب العمال – ومعه المؤسسة السياسية البريطانية – يخشى إغضاب الرئيس الأمريكي المحتمل، حتى لو كان تأثيره حاسمًا على مستقبل الأمن الأوروبي.

سيناريوهات متطرفة تلوح في الأفق

قد تصبح المراجعة الجديدة قديمة في غضون أسابيع فقط، بفعل تغير الأحداث. سيناريوهات مثل غزو صيني لتايوان، أو تصعيد في دول البلطيق، أو تجربة نووية إيرانية، كلها احتمالات قائمة. بل حتى انتهاء الحرب في أوكرانيا – وليس فقط استمرارها – قد يعيد تشكيل أولويات بريطانيا الدفاعية جذريًا. ومع ذلك، تتضمن الوثيقة تصورًا لهوية دفاعية لبريطانيا كدولة كبرى (وليست عظمى) ترتبط أمنًا بأوروبا أكثر من أي مكان آخر، وهي رؤية لم تتغير رغم البريكست. غير أن هذه الرؤية تكشف أيضًا مدى هشاشة الإجماع الوطني، وسهولة انخداع الشعوب بالشعارات والحلول البسيطة.

أزمة ثقة تتجاوز الدفاع

المشكلة الأعمق لا تتعلق بملف الدفاع وحده، بل بانهيار القدرة العامة على كسب دعم شعبي واسع للتغيير الجذري في السياسات. تواجه الديمقراطيات الليبرالية أزمة ثقة حادة، تظهر في كل المجالات: من تراجع قدرة الغرب على ردع روسيا، إلى انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها الدولية، إلى عجز الدولة الديمقراطية عن الوفاء بوعودها التاريخية. فالتقشف الدفاعي بعد الحرب الباردة مجرد نموذج، بينما تمتد الأزمة إلى الإهمال في رعاية المسنين، وتراجع الخدمات العامة، وتفكك العقد الاجتماعي.

السياسة في زمن فقدان الثقة

وهذا ما يجعل الوضع السياسي الحالي مشوبًا بالارتباك. فالمفارقة أن حزب العمال تمكّن من الوصول إلى السلطة، لكنه يبدو في طريقه لخسارة الانتخابات القادمة. ليس لأن البريطانيين يميلون للمحافظين، ولا لأن ستارمر يفتقر إلى المبادئ، بل لأن الليبرالية السياسية فقدت الثقة العامة التي كانت تُمكنها من إدارة الأزمات. وقد جاءت مراجعة الدفاع وسط شكوك واسعة حول قدرة الحكومة على تمويل برامجها، وستزداد هذه الشكوك مع قرب مراجعة الإنفاق المقبلة. إن إصلاح العلاقة بين الدولة والمجتمع بات ضروريًا، لكنه لن يتم عبر حلول سريعة، بل يتطلب قدرًا من التواضع، وصبرًا طويل الأمد، ولمسة من الإبداع السياسي.

 

علياء حسن

علياء حسن صحفية مصرية تحت التدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى