الوكالات

نيويورك تايمز: ترامب يطيح بمفوضة الإحصاءات: مواجهة مفتوحة مع الحقائق

في حادثة أثارت ضجة سياسية وإعلامية، أقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مفوضة مكتب إحصاءات العمل الفيدرالي، إيريكا ماكنترف، عقب صدور تقرير شهري أظهر تباطؤًا كبيرًا في نمو الوظائف، وهو ما اعتبره الرئيس “أرقامًا مزوّرة” تهدف إلى الإضرار به وبحزبه الجمهوري. هذه الخطوة ليست معزولة، بل تأتي ضمن نمط متكرر في إدارة ترامب يقوم على إقصاء أو الضغط على المسؤولين الذين يقدمون بيانات أو تقارير لا تنسجم مع روايته السياسية. الأمر أثار قلق الخبراء والمدافعين عن الشفافية، الذين يرون أن مثل هذه التصرفات تمثل تهديدًا خطيرًا لاستقلالية المؤسسات الحكومية، وتحويلها من مصادر موثوقة للمعلومات إلى أدوات دعائية تخدم السلطة التنفيذية، ما يطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل الحكم الرشيد في الولايات المتحدة.

الإقالة التي فجرت الجدل

جاءت إقالة ماكنترف بعد نشر تقرير أظهر أن الاقتصاد الأمريكي أضاف في يوليو نصف عدد الوظائف المسجلة في المتوسط العام السابق، مع مراجعات سلبية للأشهر الماضية. ترامب وصف الأرقام بأنها “مزورة” دون دليل، مؤكدًا أنها جزء من مؤامرة سياسية للإضرار به. الخطوة قوبلت بانتقادات من سياسيين وخبراء اقتصاد من الحزبين، الذين حذروا من أن هذه السابقة قد تضعف الثقة في البيانات الاقتصادية الرسمية، التي يعتمد عليها المستثمرون وواضعو السياسات في اتخاذ قراراتهم.

احتجاج “أوقفوا السرقة” خارج المحكمة العليا في عام 2020. ضغط السيد ترامب على مسؤولي وزارة العدل للإعلان زوراً أن انتخابات عام 2020 كانت فاسدة وبالتالي سُرقت منه.

 نهج متكرر في مواجهة الحقائق

الإقالة ليست حدثًا فريدًا، بل جزء من استراتيجية طويلة الأمد لترامب لمواجهة أي بيانات أو تقارير تتعارض مع مواقفه. من تعديل خرائط الأعاصير لتأكيد توقعاته الخاطئة، إلى الضغط على وزارة العدل لتغيير موقفها بشأن انتخابات 2020، يعكس سلوك ترامب تفضيل القناعات الشخصية على الحقائق المثبتة. خبراء الديمقراطية يرون أن هذا السلوك يهدد “البنية المعرفية” للنظام الديمقراطي، حيث تصبح الحقائق مرنة وخاضعة لإرادة رأس السلطة، في أسلوب يشبه ما تمارسه الأنظمة السلطوية.

اختبرت محاكمة مدنية ادعاءات السيد ترامب بالثراء، ووجد القاضي أنها مزورة. وقد استأنف الرئيس الحكم.

تشابه مع أساليب أنظمة سلطوية

وحسب صحيفة نيويورك تايمز فإن محللون يرون أوجه شبه متزايدة بين ما يفعله ترامب وأساليب بعض القادة السلطويين حول العالم. في روسيا والصين وتركيا، استُخدمت السيطرة على الإحصاءات والمعلومات الاقتصادية كأداة لتعزيز صورة النظام وإخفاء الأزمات. ترامب، وفق مراقبين، يسير في اتجاه مشابه، حيث تضغط إدارته على الوكالات الفيدرالية لإعادة صياغة تقاريرها بما يتماشى مع رسائل البيت الأبيض، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو المناخ أو الأمن القومي، ما يثير القلق بشأن مستقبل الحياد المؤسسي.

تهديد لاستقلالية مكتب الإحصاءات

مكتب إحصاءات العمل يتمتع تاريخيًا بقدر من الاستقلالية لضمان حياد بياناته، لكن الإقالة الحالية، بحسب خبراء، ترسل رسالة تحذير واضحة: البقاء في المنصب مرهون بمدى توافق التقارير مع الخط السياسي للإدارة. منظمات مثل اتحاد العلماء القلقين اعتبرت أن ما جرى يمثل تهديدًا مباشرًا للنزاهة العلمية، ويحول الإحصاءات إلى أداة سياسية، ما قد يؤدي إلى تشويه الحقائق التي يفترض أن تُبنى عليها السياسات العامة.

نفى السيد ترامب مرارا وتكرارا حجم الحشد الذي تم الإعلان عنه في حفل تنصيبه الأول.

تاريخ طويل من تضخيم الأرقام

لطالما لجأ ترامب إلى تضخيم إنجازاته أو تعديل الأرقام لصالحه. من المبالغة في عدد حضور حفل تنصيبه عام 2017، إلى مقاضاة صحفيين شككوا في حجم ثروته، تبدو النزعة إلى صناعة “واقع موازي” واضحة. الجديد في ولايته الثانية هو أن هذه النزعة لم تعد تقتصر على تصريحاته أو دعايته، بل امتدت إلى محاولة إعادة تشكيل مؤسسات الدولة، بحيث تلتزم بروايته حتى لو كانت على حساب الحقائق.

تدخلات تمتد لما وراء الاقتصاد

السيطرة على المعلومات لم تقتصر على الملفات الاقتصادية، بل امتدت إلى الاستخبارات والمؤسسات الثقافية. تقارير أفادت بأن البيت الأبيض ضغط على أجهزة الاستخبارات لتعديل تقييمات أمنية تتعلق بفنزويلا، كما شهدت المتاحف الوطنية تغييرات في معارضها لحذف أو تعديل محتويات لا تروق لترامب، بما في ذلك مواضيع عن العبودية والتغير المناخي وحتى عزله مرتين، في محاولة لإعادة صياغة السرد التاريخي الأمريكي.

يروي أحد المعارض في متنزه إندبندنس التاريخي الوطني في فيلادلفيا قصة وحشية العبودية، وقد تم وضع المعرض تحت المراجعة في إطار سعي ترامب لاستهداف الصور غير الممتعة للتاريخ الأمريكي.

ردود فعل وتحذيرات واسعة

سياسيون من الحزبين أعربوا عن قلقهم من أن إضعاف استقلالية البيانات الرسمية سيؤدي إلى فقدان الثقة العامة في الحكومة. بعض الجمهوريين السابقين أكدوا أن “إقالة حامل الرسالة لن تغير الواقع الاقتصادي”، مشيرين إلى أن المواطنين يقيمون أداء الحكومة بناءً على ظروفهم المعيشية لا على ما يُقال لهم. الديمقراطيون اعتبروا ما حدث جزءًا من هجوم أوسع على الديمقراطية، وتحويل المؤسسات إلى أذرع سياسية للرئيس.

الديمقراطية على المحك

إقالة مسؤولة عليا بسبب إصدارها بيانات غير مرضية للسلطة تعكس أزمة أعمق من مجرد خلاف حول الأرقام. هي مؤشر على اتجاه خطير لتسييس الحقائق وتطويع المؤسسات لخدمة أهداف سياسية ضيقة. الديمقراطيات الحقيقية تقوم على مؤسسات مستقلة توفر بيانات دقيقة حتى لو كانت محرجة للحكام. وعندما تصبح الحقائق قابلة للتفاوض أو الإخفاء، تتراجع قدرة المجتمع على محاسبة السلطة، وتقترب الدولة من نموذج “الديمقراطية الشكلية” التي تخفي وراءها تحكمًا مطلقًا بالمعلومة.

إقرأ ايضَا…

بريطانيا تُعزز صناعتها الدفاعية وتُقلص الاعتماد على الولايات المتحدة

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى