الدنمارك بقيادة يسارية تتبنى سياسات هجرة يمينية تثير جدلًا واسعًا في أوروبا

في الوقت الذي تزداد فيه الانقسامات السياسية داخل أوروبا حول ملف الهجرة، تبدو الدنمارك حالة شاذة وفريدة: دولة يقودها حزب يساري، لكنها تتبنى واحدة من أشد السياسات صرامة في التعامل مع المهاجرين. فهل كانت هذه المقاربة القاسية فعالة؟ وهل يمكن أن تصبح “النموذج الدنماركي” الجديد الذي يحتذي به اليسار الأوروبي؟
رئيسة الوزراء ميته فريدريكسن، زعيمة الحزب الاجتماعي الديمقراطي، تسير على خطى الشعبويين الأوروبيين لا في الشعارات فقط، بل في السياسات الفعلية. وبينما تحصد الأحزاب اليمينية المتطرفة مكاسب انتخابية في دول كفرنسا وإيطاليا والسويد، يبدو أن فريدريكسن تمكنت من تقويض شعبيتهم بإفراغ أجندتهم من محتواها… واحتكارها.
الهامش الحضري: حيث تتراكم الإخفاقات السياسية
خارج المراكز التاريخية والمناطق الدبلوماسيةوالمناطق الدبلوماسية لعواصم أوروبا الغربية، تقبع الضواحي التي تُقصى غالبًا من حسابات السياسيين. في ضواحي باريس أو برلين أو بروكسل، يتحول الإقصاء الاقتصادي والثقافي إلى تربة خصبة للجريمة، وتدني مؤشرات التعليم والعمل، وتدهور الشعور بالانتماء. المهاجرون، أو أبناء المهاجرين، يُدفعون إلى هذه الهوامش كمنفى داخلي لا صوت له.
وفي حين تستثمر الأحزاب اليمينية المتطرفة هذه الصور في خطابها السياسي، نجحت فريدريكسن في تبني تشخيص مشابه، لكن من موقع يساري، مدعية أن تكلفة الهجرة تقع على عاتق الفقراء الدنماركيين، لا على النخب التي تستفيد من العمالة الرخيصة.
اقرا أيضاً:
موجز اليوم من العالم في دقائق | أهم أخبار السياسة والاقتصاد والصراعات الدولية
يسار بقناع يميني: سياسة “الرفاه المشروط”
الحكومة الدنماركية بررت إجراءاتها القاسية بأنها تحمي تماسك نموذج دولة الرفاه. فوفقًا لزعمها، فإن استيعاب أعداد كبيرة من الوافدين، خاصة من ذوي “القيم المختلفة” (في إشارة مبطنة إلى المسلمين)، يقوّض الروابط الاجتماعية التي يستند إليها هذا النموذج.
من هذا المنطلق، أقرّت الحكومة سلسلة من الإجراءات الصارمة: مصادرة ممتلكات طالبي اللجوء، تقليص المساعدات، تشديد شروط الإقامة الدائمة والجنسية، بل ومراجعة أوضاع اللاجئين سنويًا مع إمكانية إعادتهم إلى أوطانهم الأصلية إذا زال “التهديد”، حتى لو لم يعرف أطفالهم بلدًا غير الدنمارك.
من “الغيتو” إلى “المجتمع الموازي”: تفكيك الأحياء غير الغربية
قانون أقرته الحكومة السابقة وواصلت تطبيقه فريدريكسن بقوة، استهدف ما يُعرف بـ”الغيتوهات”، وهي المجمعات السكنية التي تضم نسبًا عالية من السكان المنحدرين من خلفيات غير غربية. وإذا ما تجاوزت هذه المناطق معايير معينة كارتفاع معدل الجريمة أو البطالة، فإن الدولة قد تقرر تفكيكها أو بيعها.
وقد اقترحت حكومة فريدريكسن أيضًا إرسال طالبي اللجوء إلى رواندا لمعالجة طلباتهم، في خطة أُجهضت لاحقًا لكنها كشفت عن مدى الجدية في نهج الردع.
النتيجة: إضعاف اليمين المتطرف… وتقوية الدولة الاجتماعية؟
من الناحية السياسية، أفضت هذه المقاربة إلى تراجع اليمين المتطرف، الذي كان قد شارف على الزوال في بعض الفترات، ولا يزال يحتل المركز الخامس فقط في استطلاعات الرأي. كثيرون يرون في ذلك نجاحًا تكتيكيًا: لماذا يصوّت المواطنون لحزب عنصري بينما يوفر لهم حزب يساري السياسات نفسها دون وصمة التطرف؟
وقد استفادت فريدريكسن من هذا الاستقرار النسبي في تمرير أجندة يسارية على صعيد آخر، من ضمنها خفض سن التقاعد لذوي الدخل المحدود، والدعم الكامل لأوكرانيا، ما جعلها واحدة من آخر زعماء اليسار الديمقراطي في أوروبا الذين ما زالوا في مناصبهم.
رئاسة الاتحاد الأوروبي: فرصة لتصدير النموذج الدنماركي؟
مع ترؤس الدنمارك للاتحاد الأوروبي حتى نهاية العام، تمتلك فريدريكسن منصة أوروبية لعرض رؤيتها للهجرة الصارمة كحل واقعي يحفظ دولة الرفاه. وتراهن على أن أوروبا التي تعاني من صعود اليمين المتطرف قد تفضل نسخة معتدلة من السياسات نفسها، شرط أن تأتي بتوقيع يساري.
هشاشة التعايش: عندما يصبح المهاجر “تهديدًا” دائمًا
ورغم كل ما سبق، يطرح النهج الدنماركي أسئلة مقلقة حول التعايش المدني والمواطنة. فحين يُعامَل اللاجئون وكأنهم عبء أو “خطر أمني وثقافي”، يصعب بناء هوية جامعة. المهاجرون، وهم قرابة مليون من أصل ستة ملايين هم إجمالي السكان، يُنظر إليهم بوصفهم غرباء حتى لو ولدوا على أرض الدنمارك. يطلب منهم الاندماج والولاء، مع إبقاء الباب مفتوحًا لطردهم في أي لحظة.
قد تكون الدنمارك فهمت مبكرًا أن للهجرة كلفة اجتماعية، لكنها قد تكون أيضًا ضحت بالتماسك المجتمعي الذي تدّعي الحفاظ عليه. فكيف يمكن للمرء أن يحب وطنًا يعامله كضيف ثقيل الظل؟