عربي وعالمي

حين تعترف المصالح بما ترفضه المبادئ: لماذا صافحت موسكو طالبان؟

في لحظة سياسية فارقة، تتجه روسيا إلى كابول لا لتأييد الأيديولوجيا، بل لتمكين نفوذها وتحدي الغرب

منذ لحظة إعلان موسكو اعترافها الرسمي بحكومة طالبان، والدوائر السياسية والإعلامية في الغرب تتعامل مع القرار بوصفه صدمة. غير أن من ينظر إلى المشهد بعين المصالح لا الأيديولوجيا، يدرك أن روسيا لم تغيّر جلدها، بل استثمرت في واقع جديد يتشكل بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وسط فراغ ملحوظ في النفوذ الإقليمي.

اعتراف لم يولد فجأة

العلاقة بين موسكو وطالبان لم تبدأ من بوابة الاعتراف، بل من سنوات طويلة من التواصل “الواقعي” الذي بدأ عام 2016. مع مرور الوقت، اتضح للكريملين أن طالبان ليست عابرة في المشهد الأفغاني، بل لاعب لا يمكن تجاهله. وفي أبريل الماضي، رفعت روسيا اسم الحركة من قائمتها للمنظمات الإرهابية، تمهيدًا للاعتراف الرسمي، الذي تجسّد أخيرًا برفع علم “الإمارة الإسلامية” على مبنى السفارة الأفغانية في موسكو.

الأمن قبل كل شيء

ما يهم روسيا في المقام الأول هو أمن حدودها الجنوبية، وتحديدًا الجمهوريات المتاخمة لأفغانستان كطاجيكستان وأوزبكستان. فبينما لا تُبدي طالبان عداءً مباشراً لموسكو، تتزايد تهديدات تنظيم “داعش – ولاية خراسان”، الذي تبنّى الهجوم الدموي على قاعة “كروكوس” في موسكو عام 2024. هنا لم يعد بوسع روسيا أن تكتفي بالمراقبة، فبدأت ترى في طالبان شريكًا محتملًا للحد من التهديدات العابرة للحدود.

عدو العدو قد يصبح شريكًا

رغم أن طالبان لا تزال تُتهم بانتهاك حقوق الإنسان وتضييق الحريات، إلا أنها – بنظر موسكو – نجحت في احتواء تمدد داعش داخل أفغانستان. هذه المعادلة الدقيقة دفعت روسيا إلى الرهان على طالبان كورقة أمنية لا غنى عنها في الوقت الراهن، خصوصًا في ظل تقاطع مصالح الطرفين في التصدي للتنظيمات المتطرفة.

أفغانستان: معبر المصالح الروسية

الاعتبارات الاقتصادية حاضرة بقوة. فأفغانستان تمثل بوابة استراتيجية بين آسيا الوسطى والجنوبية، وتفتح المجال أمام مشاريع نقل إقليمي وطموحات استثمارية في مجالات التعدين والطاقة والزراعة. التعاون مع طالبان يُسهّل على موسكو، ومعها الصين، تنفيذ خطوط سكك حديد تربط الشمال بالجنوب، وتصل في مداها إلى المحيط الهندي. لكن ذلك يبقى مرهونًا بحد أدنى من الاستقرار الداخلي.

تحدي النموذج الغربي

الاعتراف الروسي ليس مجرد تحرك ثنائي، بل هو جزء من خطاب أكبر تتبناه موسكو عن “تعدد الأقطاب”. في هذا السياق، يظهر القرار الروسي كرسالة ضمنية للعالم مفادها: لسنا بحاجة إلى موافقة واشنطن لنحدد من نعترف به، أو كيف نبني علاقاتنا. فبينما يشترط الغرب معايير ديمقراطية لشرعنة الحكومات، تؤمن روسيا بأن المصالح والأمن والواقعية الجيوسياسية عوامل كافية لصياغة الاعتراف.

المفارقة السورية: ازدواج المعايير

من السخرية، وفق الرؤية الروسية، أن الدول الغربية تسارع إلى تطبيع العلاقات مع نظام سوري يقوده أحمد الشرع، القائد السابق في تنظيم القاعدة، بينما تنتقد الاعتراف بطالبان التي لم تُدرج أصلاً على قوائم الإرهاب الأممية. وموسكو توظف هذا التناقض لتأكيد ازدواجية المعايير الغربية.

طالبان ليست دمية في يد أحد

لكن موسكو لا تخدع نفسها. فطالبان حركة قومية الطابع، ذات هوية بشتونية راسخة، ولن تكون تابعة لأي قوة خارجية. هي تسعى لعلاقات متوازنة مع روسيا والصين وإيران ودول الخليج، وتحاول – متى سنحت الفرصة – فتح قنوات مع الغرب ذاته. وبالتالي، فالتقارب مع روسيا لا يعني ولاءً مطلقًا، بل جزءًا من دبلوماسية “اللعب بين المحاور”.

مكاسب.. لكن بحذر

تدرك روسيا أن هذا التقارب ليس بلا ثمن. فما زالت داعش تمثّل خطرًا حقيقيًا، والاقتصاد الأفغاني هش، والعقوبات الغربية قائمة، وحياد طالبان قد يُقيّد النفوذ الروسي. لكن، وفي ميزان المكاسب، ترى موسكو أن الاعتراف بالحكومة القائمة في كابول خطوة في توقيتها الصحيح، تعزز من وضعها في صراع النفوذ مع الغرب.

النهاية: ملء الفراغ الأميركي بقفازات روسية

في ظل انسحاب الولايات المتحدة وتراجع اهتمامها بالمنطقة، تتحرك موسكو لملء الفراغ بقوة وحنكة. ليس لأنها تؤمن بطالبان، بل لأنها تؤمن بأن الجغرافيا لا تنتظر، وأن من يتأخر اليوم قد لا يجد مكانًا غدًا.

اقرا ايضا:اقتصادي لـ ” العالم في دقائق”  استمرار تراجع أسعار المنتجين الصناعية في البرتغال يدعم تنافسية الاقتصاد

رجاء رضا

رجاء رضا بكالوريوس إعلام – جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى