من نبوءة إلى واقع: تقرير إيكونوميست يكشف تحوّل عقيدة إسرائيل الأمنية

في تقرير حديث لمجلة إيكونوميست، يُستحضر مشهد من الكنيست قبل عشرة أعوام، حين رسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صورة قاتمة لمستقبل الصراع مع الفلسطينيين. سأل آنذاك: “هل سنعيش إلى الأبد بالسيف؟” ليجيب بنفسه: “نعم”. كان التصريح صادمًا، حتى داخل أوساط المؤسسة العسكرية التي لم تكن مستعدة للتخلي عن الأمل في المسارات الدبلوماسية. اليوم، وبحسب التقرير، تحوّلت تلك الرؤية إلى واقع ملموس، رغم تجاوز إسرائيل للذعر الوجودي الذي أعقب هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والذي أودى بحياة 1100 شخص وأسر 250 آخرين.
خلال خمسة عشر شهرًا من الحرب، جرى تقويض قدرات حماس إلى حد كبير، وباتت عاجزة عن تنفيذ عمليات كبرى. حزب الله اللبناني، بدوره، يعاني تحت الضربات الإسرائيلية، بينما أدت الفوضى في سوريا إلى تعطيل قنوات الإمداد الإيرانية. “حلقة النار” التي لطالما حذّرت منها إسرائيل أصبحت الآن كومة من الأنقاض. بل إن إسرائيل ردّت على وابل الصواريخ الإيرانية بهجوم استهدف الدفاعات الجوية الإيرانية نفسها.

في مراحل سابقة، كانت حكومات إسرائيلية تعتبر هذه النقطة مناسبة لإعلان النصر. لكن في عهد نتنياهو، تغيّرت المعادلة. فبدافع من النجاح العسكري، باتت إسرائيل تستعرض قوتها بشكل غير مسبوق: من الاستيلاء على أراضٍ خارج حدودها، إلى مناقشة ضم الضفة الغربية علنًا، والدعوة المباشرة لضرب المنشآت النووية الإيرانية. هدف هذه السياسة؟ فرض الهيمنة الإقليمية. لكن السؤال الأهم: هل يمكن لإسرائيل تحمّل تبعات حرب لا نهاية لها؟
ساحة معركة متوسعة
غزة أصبحت رمزًا لطموحات إسرائيل المتنامية. فبعد بداية متحفظة للعمليات العسكرية، شملت إنشاء مناطق عازلة وممرات استراتيجية، انهار وقف إطلاق النار الذي دام ستة أسابيع في يناير، مع استئناف القصف استعدادًا لهجوم بري. رئيس الأركان الجديد، إيال زامير، وعد بـ”تكتيكات هجومية”، تشمل إفراغ مناطق واسعة من السكان وحصار المقاتلين. وزير الدفاع، يسرائيل كاتس، لمّح إلى احتمال أن يصبح الاحتلال دائمًا – في خطوة قد تعمّق حربًا راح ضحيتها أكثر من 50 ألف فلسطيني.
في الضفة الغربية، نفذت إسرائيل أوسع عملية عسكرية منذ عقود، أدت إلى تهجير نحو 40 ألفًا من سكان المخيمات في الشمال. ازداد نفوذ الفصائل اليمينية المتطرفة التي تسعى لشرعنة المستوطنات غير القانونية، وتضغط على واشنطن لدعم ضمها – ما يهدد بنسف خيار الدولتين نهائيًا. وفي الوقت نفسه، تستمر إسرائيل بالسيطرة على أراضٍ سورية، وتُجري محاولات للتقرب من الأقلية الدرزية، في محاولة ربما لتفكيك الدولة السورية. وعلى الرغم من وعود بالانسحاب من تلال لبنانية بعد وقف إطلاق النار، لا تزال القوات الإسرائيلية متمركزة هناك.

أما في ما يخص إيران، فإن نتنياهو – الذي لطالما اعتبر البرنامج النووي الإيراني تهديدًا وجوديًا – يضغط الآن علنًا على واشنطن لتأييد أو المشاركة في ضربة محتملة. وتشير التقديرات الاستخباراتية الأمريكية إلى أن إسرائيل قد تتحرك خلال ستة أشهر.
جذور الطموح
جاء هذا التحول العدواني نتيجة مباشرة لصدمة 7 أكتوبر. قبل ذلك، كانت سياسة إسرائيل تقوم على الاحتواء: اغتيالات محددة، حروب محدودة، وردع محسوب. أما الآن، فلم تعد حتى التهديدات النظرية مقبولة. فحكومة سوريا، التي تسعى لإعادة بناء مؤسساتها، تجد نفسها أمام عمليات إسرائيلية جديدة تُبرر بأنها لـ”حماية” مكاسب حرب 1967.
لكن في أوساط اليمين المتطرف، الذي يعتمد عليه نتنياهو للبقاء في السلطة وتجنب المحاكمة بتهم الفساد، تُستخدم مفاهيم الأمن كغطاء لأجندة توسعية. تتنامى دعواتهم لاستعادة مستوطنات غزة، وضم الضفة الغربية، بل وحتى إقامة “إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات. وعلى الرغم من كون هذه القوى أقلية، فإن تأثيرها السياسي آخذ في التزايد. الحرب المستمرة أجّلت محاكمة نتنياهو، إذ تم تقليص أيام شهادته أمام المحكمة إلى يومين أسبوعيًا بسبب ما وُصف بـ”انشغاله في سبع جبهات قتال”.

كلفة باهظة للهيمنة
لكن هذا السعي نحو الهيمنة يفرض ضغوطًا هائلة. فالتعبئة العسكرية المستمرة تستنزف الجيش: يبلغ متوسط خدمة جنود الاحتياط 61 يومًا، مقابل 25 فقط قبل الحرب، ما يؤثر على جاهزية الوحدات. خُصص لوزارة الدفاع 29 مليار دولار في ميزانية 2025 – بزيادة قدرها 75% – على حساب الإنفاق المدني، مع زيادة في الضرائب وتضخم الدين العام إلى 69% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومع ذلك، يواصل التحالف الحاكم تحويل الموارد لمشاريع تخدم قاعدته السياسية، مثل المدارس الأرثوذكسية المتشددة التي يُعفى طلابها من الخدمة العسكرية. زعيم المعارضة، يائير لابيد، وصف الميزانية بأنها “أكبر عملية سطو في تاريخ إسرائيل”. أما ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة – من الحكومة إلى الكنيست وحتى الجيش – فقد شهدت تراجعًا حادًا. فقط 11% من اليهود الإسرائيليين يرون أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح، مقارنة بـ 55% قبل سبع سنوات.
تصدعات في الداخل
تعكس قرارات نتنياهو الأخيرة حجم التوترات الداخلية. ففي خطوة مثيرة للجدل، سعى إلى إقالة رئيس الشاباك، رونين بار، بسبب تحقيق يتعلق بتلقي مساعدين لنتنياهو رشاوى قطرية وهي خطوة أوقفتها المحكمة العليا مؤقتًا.