فايننشال تايمز: بين التنين والدب… هل يُعاد تشكيل النظام العالمي خارج العباءة الغربية؟
محور بكين-موسكو: تحالف استراتيجي يغير توازنات القوى العالمية الحديثة

في عصر تداخلت فيه الثورات التكنولوجية والرقمية مع التحولات السكانية والمناخية والعسكرية والوبائية والاقتصادية، يبدو أن النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية يمر بلحظة تحول جوهري. في هذا السياق، تتعالى التحذيرات من أن القوى الكبرى لم تعد وحدها من ترسم ملامح المستقبل، بل هناك قوى صاعدة تعيد تعريف مراكز النفوذ. من الشرق الآسيوي إلى قلب أوراسيا، تبرز شراكات جديدة تتحدى التفوق الغربي، في مقدمتها محور بكين-موسكو الذي بات يُنظَر إليه كرافعة لتوازنات جديدة في النظام الدولي.
الصين وروسيا: محور “التنين والدب” يفرض حضوره

العلاقة المتنامية بين الصين وروسيا، والتي توصف بمحور “التنين والدب”، تمثل في نظر كثيرين أبرز تحدٍ للنظام الدولي القائم. بكين وموسكو تقدمان تحالفهما كقوة مضادة للنظام الغربي الذي يهيمن عليه حلف الناتو والولايات المتحدة. هذا التقارب، الذي يصفه الرئيس شي جين بينغ بـ”الأبدي”، عززه تقارب شخصي مع بوتين وتطابق في السرديات حول “الاضطهاد الغربي” والحق في استعادة مجد تاريخي.
السردية التاريخية: أداة شرعية لمواجهة الغرب

يستند المحور الصيني-الروسي إلى خطاب تاريخي قوي يصور الغرب كقوة استعمارية استغلت الشعوب ونهبت ثرواتها. الرئيس شي يستحضر عصور “الإذلال الوطني” ليبرر صعود الصين، فيما يقدم بوتين ضم أجزاء من أوكرانيا كـ”استعادة للعدالة التاريخية”. هذا الخطاب يلقى صدى في العديد من دول الجنوب العالمي، التي ترى في هذه القوى الصاعدة بديلاً أخلاقيًا عن الغرب الإمبريالي.
الطريق إلى آسيا: عودة مركز الثقل إلى أوراسيا

لطالما كانت سهول أوراسيا مهد الإمبراطوريات الكبرى، ومع تحولات الجغرافيا السياسية والاقتصادية، بدأت آسيا تستعيد موقعها كمركز ثقل عالمي. الصين تعيد إحياء “طريق الحرير” القديم من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، وتقدمها كأداة للتنمية المشتركة، لا للنهب كما فعلت القوى الاستعمارية سابقًا. روسيا من جهتها تعيد تعريف نفسها كـ”حضارة خاصة” عابرة لأوروبا وآسيا، تسعى لإحياء نفوذها الإمبراطوري عبر المحيط الأوراسي.
بريكس وصعود القوى المتوسطة: تعددية قطبية قيد التشكل

في ظل تراجع الثقة في المؤسسات الدولية التي أنشأها الغرب، برزت مجموعة “بريكس” كمظلة بديلة تسعى لإعادة توزيع السلطة والنفوذ. وتضم المجموعة اليوم دولًا تمثل أكثر من 40٪ من الناتج العالمي، وتقود دعوة واضحة لإصلاح النظام المالي والاقتصادي الدولي. يرى مراقبون أن تعددية الأقطاب لن تتحقق بدون تعددية آسيوية، كما صرح وزير خارجية الهند قائلاً: “آسيا متعددة الأقطاب هي شرط لعالم متعدد الأقطاب”.
التوترات الكامنة في التحالف الصيني الروسي
رغم العبارات الدافئة التي تتبادلها بكين وموسكو، إلا أن خلافاتهما التاريخية لا تزال تلقي بظلالها. الصين لم تنس المعاهدات المهينة التي أبرمتها مع روسيا القيصرية، والريبة المتبادلة لا تزال قائمة، خاصة بعد كشف وثائق استخباراتية روسية تصنف الصين كـ”عدو محتمل” يجب الحذر من محاولاته لاختراق الدوائر السيادية.
الحرب في أوكرانيا: فرصة استراتيجية لبكين
لم تُدين الصين الغزو الروسي لأوكرانيا، بل استفادت منه اقتصاديًا. إذ عززت تجارتها مع روسيا، وحصلت على موارد طاقة بأسعار مخفضة. كما استفادت من متابعة أداء المعدات العسكرية الروسية على أرض المعركة، وهو ما سيوفر لها دروسًا ثمينة لتطوير قدراتها القتالية، خاصة في مجال الطائرات المسيّرة والحرب السيبرانية.
خطاب العداء للغرب: وحدة خطاب لا وحدة مصالح
التحالف الروسي-الصيني لا يقوم على أهداف استراتيجية موحدة، بل على اتفاق مؤقت على ضرورة تقويض التفوق الغربي. فلكل من البلدين طموحاته المنفصلة. روسيا تسعى إلى استعادة المجال السوفييتي السابق، فيما تركز الصين على التوسع الاقتصادي والهيمنة التكنولوجية. وقد تنشأ خلافات حادة حال تداخل الطموحات الجغرافية أو المصالح الإقليمية.
التاريخ كأداة مستقبلية: الماضي في خدمة التطلعات الجديدة
يراهن الطرفان على سردية تاريخية تقدم بديلاً أخلاقيًا للنظام الغربي. في هذا السياق، لا يتم التركيز على الاستعمار الروسي في آسيا أو النزعة التوسعية للصين، بل يتم الترويج لصورة مثالية من “الانفتاح والتعاون والسلام”. هذه الرواية تحظى بقابلية واسعة في دول الجنوب، ما يمنح الصين وروسيا أدوات ناعمة لتعزيز نفوذهما العالمي دون استخدام القوة الصلبة المباشرة.
خاتمة: ولادة نظام عالمي جديد في رحم تناقضات التحالفات
في النهاية، يبدو أن العالم يتجه إلى لحظة فارقة، حيث تعيد الدول الكبرى والمتوسطة ترتيب أوراقها، وتبحث عن مواقع جديدة في نظام عالمي قيد التشكُّل. ومع أن العلاقات الروسية الصينية تقدم نموذجًا لشراكة قائمة على المصالح المؤقتة أكثر من القيم المشتركة، إلا أنها تملك قدرة لا يستهان بها على زعزعة استقرار النظام الدولي القديم، وتمهيد الطريق نحو تعددية قطبية لا تزال قيد المخاض.