طاقة

الطريق الأخضر ليس رفاهية: إنه الحل الأرخص والأذكى

التحول الأخضر يبدأ من مصلحتك… لا من ضميرك

لأكثر من عقد، شعر نشطاء البيئة في بريطانيا بنوع من الطمأنينة السياسية، إذ حافظت البلاد على توافق نسبي حول السياسات البيئية، خلافاً لما شهدته دول أوروبية أخرى من احتجاجات قادها سائقو السيارات والمزارعون والجماعات اليمينية المتطرفة ضد سياسات المناخ. غير أن المؤشرات الحالية توحي بأن ما يُعرف بـ”الارتداد الأخضر” بات يطرق الأبواب البريطانية.

صحيح أن غالبية البريطانيين ما زالوا يبدون تأييداً ظاهرياً لجهود مكافحة التغير المناخي، إلا أن كلفة إزالة الكربون بدأت تمس جيوب المواطنين. ومن جهة أخرى، تغير خطاب حزب المحافظين كثيراً عن الأيام التي كان فيها شعار “البلوط الأخضر” يعبر عن رؤيته. ففي الشهر الماضي، أعلنت وزيرة الأعمال كيمي بادينوك حرباً ثقافية شاملة على سياسة “الصفر الصافي”، مشيرة إلى أنها غير قابلة للتحقيق من دون “تنازل كبير عن مستوى المعيشة أو إفلاس البلاد”.

بريطانيا، إذن، تلتحق باتجاه عالمي متصاعد. الأحزاب الشعبوية المناهضة للعمل المناخي تحقق مكاسب كبيرة في أوروبا، والمعارضون يحرزون تقدماً في كندا وأستراليا، أما في الولايات المتحدة، فقد انسحبت من اتفاق باريس، مما يدفع بلداناً أخرى للتساؤل: لماذا نتحمل أعباء إنقاذ الكوكب فيما تندفع أميركا بلا هوادة في الاتجاه المعاكس؟

المناخ ومعضلة العمل الجماعي

لطالما كان التغير المناخي مشكلة جماعية تتطلب تعاوناً دولياً. حتى أولئك المتأثرين مباشرة بالكوارث المناخية يجدون صعوبة في تبرير اتخاذ إجراءات محلية مكلفة. فمثلاً، رغم الحرائق الكارثية في أستراليا، لا يزال هناك تيار قوي يعارض السياسات البيئية، وهو أمر لا يخلو من منطق، إذ يمكن لأستراليا أن تخفض انبعاثاتها إلى الصفر، لكنها ستبقى عرضة لانبعاثات الآخرين. هذه المفارقة ليست إلا إنذاراً مبكراً: حتى في مواجهة الخطر المباشر، قد يجد الناس مبررات لعدم التحرك.

لذا، حان الوقت لتغيير طريقة الخطاب. الشعبويون اليمينيون بارعون في تسليط الضوء على تكلفة السياسات الخضراء، أما المدافعون عنها، فلا يجيدون الترويج لمنافعها. ومع تراجع جاذبية الحجج الأخلاقية، يبدو أن السبيل الأكثر فاعلية اليوم هو تقديم مبررات ذاتية ومصلحية للانتقال إلى الاقتصاد الأخضر.

الصحة والبيئة: مصلحة ذاتية بامتياز

البداية يمكن أن تكون من تلوث الهواء، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بانبعاثات الكربون. في بريطانيا وحدها، يُعتقد أن تلوث الهواء يتسبب بما يصل إلى 43 ألف وفاة سنوياً. سكان المدن اعتادوا استنشاق الهواء الملوث عند فتح النوافذ أو أثناء الجري في الشوارع، لكن هذا الهواء محمل بجسيمات دقيقة تؤذي الجسم بطرق متعددة: من أمراض القلب والرئة إلى الخرف، وسرطان المثانة، وسرطان الدم لدى الأطفال، والسكري، وتأخر النمو العقلي، وأمراض المناعة الذاتية، وهشاشة العظام، والشيخوخة المبكرة، بل وحتى إعتام عدسة العين.

أما في المنازل، فتتسبب الغلايات التي تعمل بالغاز في إطلاق أكاسيد النيتروجين، التي تؤدي إلى التهابات الجهاز التنفسي. وتشير التقديرات إلى أن مواقد الغاز وحدها تساهم في نحو 3928 حالة وفاة مبكرة سنوياً في بريطانيا. الأطفال في المنازل التي تستخدم الغاز للطهي معرضون بنسبة 42% أكثر للإصابة بالربو.

ولا يقف الأمر عند التلوث فقط. الضوضاء الناتجة عن حركة المرور أيضاً تضر بالصحة: العيش قرب الطرق السريعة يسبب توتراً مزمناً يزيد من خطر الإصابة بالجلطات والسكري. كما أن الضوضاء تؤثر سلباً على نمو أدمغة الأطفال. تقليص حركة المرور في المدن لا يحسن جودة الحياة فحسب، بل ينعش اقتصادها، كما أظهرت التجارب في المراكز الحضرية التي تم تحويلها إلى مناطق للمشاة.

الطاقات المتجددة: استثمار رابح لا محالة

التحول إلى مصادر طاقة أنظف يحمل أيضاً منافع اقتصادية واضحة. فالدول المعتمدة على الوقود الأحفوري ستجد نفسها متخلفة مع مرور الوقت. أسعار الألواح الشمسية آخذة في الانخفاض، والسيارات الكهربائية في طريقها لتصبح أرخص من نظيرتها العاملة بالبنزين أو الديزل. ومع استمرار تراجع أسعار البطاريات، ستصبح هذه المركبات الخيار الأكثر جدوى. كذلك، فإن تحسين العزل الحراري للمنازل واستخدام المضخات الحرارية سيساهم في خفض استهلاك الطاقة. كما أن الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة يعزز أمن الطاقة، ويقلل من التبعية الجيوسياسية.

البراغماتية لا الأخلاق وحدها

غالباً ما يعتمد المدافعون عن القضايا العامة على الحجة الأخلاقية، لكن التجربة تثبت أن البراغماتية تكون أكثر فاعلية. خذ مثلاً قضايا السجون والتشرد والإدمان: حين يتم تقديمها كمشكلات إنسانية فقط، تضعف الحجة في أوقات التقشف. أما عندما تُعرض باعتبارها قضايا تمس المصلحة العامة، يصبح دعم السياسات أسهل. فمعاملة السجناء بطريقة غير إنسانية تعني تهديداً أمنياً لاحقاً، والتقصير في علاج الإدمان يفاقم الأزمة ويزيد التكلفة على الدولة، وكذلك الأمر مع سياسات المناخ.

وحتى لو لم تتقاطع مصلحة كل دولة اليوم مع إنقاذ الكوكب، فإن هذا سيتغير حتماً. آثار التغير المناخي ستكون من الضخامة بحيث تصبح أي خطوة للحد منها مجدية في نهاية المطاف. وحتى ذلك الحين، ينبغي للنشطاء البيئيين أن يركزوا على نقاط الالتقاء بين الإيثار والمصلحة الذاتية: التحول إلى المركبات الكهربائية، والمواقد الكهربائية، والمضخات الحرارية، كلها خطوات ستجعلنا أكثر صحة وسعادة حتى قبل أن تنقذ الكوكب.

محمود فرحان

محمود أمين فرحان، صحفي متخصص في الشؤون الدولية، لا سيما الملف الروسي الأوكراني. عمل في مؤسسات إعلامية محلية ودولية، وتولى إدارة محتوى في مواقع إخبارية مثل "أخباري24" والموقع الألماني "News Online"، وغيرهم, حيث قاد فرق التحرير وواكب التغيرات المتسارعة في المشهد الإعلامي العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى