فرنسا تهدد مستقبل المقاتلة الأوروبية المشتركة بطموحاتها الانفرادية والخلافات تتصاعد
باريس تطالب بـ80٪ من المهام في مشروع "إف كاس" وتثير غضب الشركاء

في مشهد يعيد إلى الأذهان إخفاقات أوروبية سابقة، تهدد فرنسا مستقبل مشروع “إف كاس” FCAS المشترك لتطوير مقاتلة الجيل السادس، بخلافات متصاعدة مع ألمانيا وإسبانيا حول تقاسم العمل والحقوق الصناعية. المشروع الذي يفترض أن يمثل نقلة نوعية لأوروبا في مجال صناعة الطيران الدفاعي، بات على حافة الانهيار مع مطالبة باريس بحصة تبلغ 80% من المهام، وهو ما يثير قلق شركائها ويدفع مراقبين إلى التساؤل: هل تتكرر مأساة “يوروفايتر تايفون” و”Tornado”؟.
مطالب باريس تشعل الصراع داخل التحالف
في خضم الاستعداد للمرحلة الثانية من برنامج “إف كاس”، والتي تشمل تصنيع طائرة تجريبية، فجّرت شركة “داسو” الفرنسية خلافًا كبيرًا بطلبها الحصول على 80% من العمل الفني والتصميمي. وبرّرت الشركة هذا الطلب بخبرتها الطويلة في صناعة المقاتلات، مطالبةً بأن تُمنح الثقة الكاملة لضمان التزام المشروع بموعده المقرر عام 2045. هذا التحرك الفرنسي أثار سخط الجانب الألماني، واعتبره مشرعون ألمان “المسمار الأخير في نعش المشروع”.
الإعلام الفرنسي يتبنى موقف “داسو” بشراسة
الخطاب الإعلامي في باريس بدا متسقًا في دعمه لموقف “داسو”. منصات دفاعية فرنسية رأت أن ألمانيا وإسبانيا يمكنهما تحمل تأخير تسليم المقاتلة الجديدة بسبب امتلاكهما بدائل مثل “تايفون” و”إف-35″، في حين أن فرنسا لا تملك رفاهية التأخير، نظرًا لتقاعد أسطول “رافال” بحلول 2040. وبحسب تقارير فرنسية، فإن عام 2025 سيكون حاسمًا: فإما إعادة هيكلة جذرية للمشروع، أو تفككه بالكامل.
غياب القيادة الموحدة.. مشكلة هيكلية تعيق التقدم
من الانتقادات الجوهرية الموجهة للمشروع منذ انطلاقه هو غياب القيادة الصناعية الموحدة، وتعدد الأطراف دون توزيع واضح للأدوار. مقارنة ببرنامج الطائرة الأوروبية بدون طيار “nEUROn” الذي نجح في توحيد الجهود عبر تفويض المهام حسب التخصص، يفتقر “إف كاس” لهذا الانضباط، ما جعل الجدول الزمني هشًّا وغير واقعي، وأدى إلى تأخيرات متكررة زادت من التوتر بين الشركاء.
انسحابات فرنسا السابقة تثير الشكوك
ليست هذه المرة الأولى التي تدخل فيها فرنسا مشروعًا دفاعيًا مشتركًا ثم تنسحب منه بسبب مطالبات بالهيمنة. ففي ستينيات القرن الماضي، انسحبت من مشروع الطائرة المتغيرة الأجنحة “Tornado”، الذي استكملته بريطانيا وألمانيا وإيطاليا بنجاح دونها. ثم كررت الأمر نفسه في الثمانينيات عندما انسحبت من برنامج “يوروفايتر تايفون”، بسبب رفض الشركاء منحها حصة 46% من المشروع ورفضهم طلبها بإضافة قدرة بحرية للطائرة.

اقرا ايضا:
الاتحاد السكندري يضم محمد سامي ويواصل تدعيم صفوفه بصفقات جديدة
“رافال”.. الخيار الانفرادي الذي أثبت نجاحه
قرار باريس بالانسحاب من “تايفون” والتوجه لتطوير طائرة “رافال” محليًا أثار حينها جدلًا واسعًا، لكنه أثبت لاحقًا نجاحًا كبيرًا. فقد أنتجت فرنسا طائرة متكاملة محليًا تشمل المحركات والرادارات والأسلحة، ما منحها حرية التصدير دون الرجوع إلى شركاء مثل ألمانيا التي تمتلك سياسات تصديرية صارمة، حالت لسنوات دون بيع طائرات “تايفون” للسعودية. أما فرنسا، فقد صدّرت “رافال” لمصر والإمارات وصربيا بسهولة.
التصدير المستقل.. مفتاح السيادة الصناعية
أحد الدروس الكبرى من تجربة “رافال” أن الاستقلال الصناعي يساوي الاستقلال السيادي في سوق السلاح. فرنسا نجحت في تصدير طائراتها دون قيد ألماني، بينما عانت دول مثل بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا من عرقلة صادراتها بسبب الرفض الألماني المتكرر. كما أن فرنسا طورت نسخة بحرية من “رافال” تعمل على حاملة الطائرات “شارل ديغول”، وهو ما كان محل خلاف سابق في مشروع “تايفون”.
احتمالات انسحاب فرنسي جديد تلوح في الأفق
في ظل تصاعد التوتر داخل “إف كاس”، وتاريخ فرنسا السابق في التخلي عن المشاريع المشتركة، يتخوف شركاؤها من سيناريو انسحاب جديد. فقد تفضّل باريس المضي قدمًا في تطوير مقاتلتها الوطنية سعيًا للاستقلال الكامل، خصوصًا أنها تمتلك البنية التحتية والخبرة الكافية لتحقيق ذلك. فهل سيكون مشروع “رافال 2” هو المستقبل البديل لفرنسا؟ هذا السؤال بات مطروحًا بجدية في الأوساط الأوروبية.
أزمة إف كاس.. اختبار للوحدة الدفاعية الأوروبية
تمثل أزمة “إف كاس” اختبارًا حقيقيًا لقدرة أوروبا على تجاوز خلافاتها الصناعية من أجل هدف أمني مشترك: امتلاك مقاتلة أوروبية من الجيل السادس تواكب الطفرة الأميركية والصينية. وإذا فشل المشروع، فلن تكون الخسارة مالية فقط، بل استراتيجية، إذ ستبقى أوروبا رهينة السلاح الأميركي، عاجزة عن بلورة قدرات جوية مستقلة دون مظلة واشنطن. وهو ما يُضعفأي طموح لقوة أوروبية موحدة في عالم تتزايد فيه التحديات.
