الاقتصاد

إعادة تشكيل العالم بعد تراجع العولمة: مسارات جديدة لعالم أكثر حرية وترابطًا

"عالم متصل: ممرات جديدة للتجارة والحرية"

مع انحسار موجة “العولمة الكلاسيكية” التي ارتكزت لعقود على تقليل التكاليف الإنتاجية حتى في أراضي الخصوم، يبرز اليوم نموذج جديد من الترابط العالمي يقوم على أسس مختلفة: السيادة، الشفافية، والثقة. وفي قلب هذا التحول تسعى الولايات المتحدة إلى بناء جسور جديدة بين فضاءات “الحُرية والانفتاح” الممتدة من المحيطين الهندي والهادئ إلى الأطلسي والمتوسطي. الهدف؟ إعادة تشكيل العمود الفقري للتجارة والأمن العالميين، وردع القوى التوسعية مثل الصين وروسيا وإيران.

 

نهاية العولمة القديمة… وبداية الاتصال الموثوق

لم تعنِ نهاية العولمة التقليدية انغلاق الأسواق أو تراجع التجارة العالمية، بل أعادت توجيه بوصلتها نحو ممرات أكثر أمانًا ومتانة. الفكرة الأساسية التي تقود الرؤية الجديدة هي “الاتصال الموثوق”، الذي لا يقتصر على البنية التحتية الرقمية والفيزيائية، بل يُبنى على أنظمة حكم تحترم كرامة الإنسان وتدعم الحرية السياسية. وهنا تبرز المفارقة؛ فدول مثل الصين وروسيا وإيران تفتقر لهذا البعد المؤسسي، ما يجعلها خارج دائرة “الارتباط الموثوق”.

 

الهند وعصر “الطريق الذهبي” الجديد

الهند، التي تُعد اليوم أسرع الاقتصادات الكبيرة نموًا، تعود إلى لعب دورها التاريخي كمحور تجاري عالمي. ومع إطلاق “الممر الاقتصادي الهندي-الشرق الأوسط-أوروبا” (IMEC) خلال رئاسة الهند لمجموعة العشرين في 2023، ظهرت ملامح “طريق ذهبي” جديد يعيد الحياة للمسارات التجارية القديمة بين آسيا والبحر المتوسط. المشروع يهدف لتجاوز قناة السويس من خلال خطوط سكك حديد وطرق جديدة عبر الخليج، ما يعزز من الارتباط التجاري بين الهند وأوروبا، ويفتح آفاقًا اقتصادية غير مسبوقة أمام دول مثل العراق وتركيا والأردن.

 

تصالحات تاريخية تُعيد رسم الخريطة

أصبح ممر IMEC ممكنًا بفضل التقارب الخليجي-الإسرائيلي بعد “اتفاقات أبراهام”، وقد يشهد دفعة إضافية في حال انضمام السعودية رسميًا، أو حتى حدوث تقارب مستقبلي – ولو نظري – بين إيران وإسرائيل. هذا النوع من المصالحات لا يعيد فقط تشكيل السياسة الإقليمية، بل يُمكّن اقتصادات متداخلة مثل إسرائيل وفلسطين والأردن من الاستفادة من فرص غير مسبوقة في التجارة والتنمية المشتركة.

 

من “الطريق الكهرماني” إلى طريق البلطيق-الأدرياتيك

في أوروبا الشرقية، تسعى دول مثل بولندا إلى إحياء “طريق الكهرمان” القديم الذي ربط البحرين الأدرياتيكي والبلطيقي في العصور الوسطى. هذا الجهد لا يستهدف التجارة فقط، بل يمتد إلى البنية الدفاعية لحلف الناتو في وجه التهديد الروسي. ومع تعاظم التنسيق بين دول الشمال الحر مثل فنلندا وآيسلندا وغرينلاند، تزداد فرص خلق حلقة تجارية وأمنية عابرة للأطلسي تمتد من القطب الشمالي إلى البحر المتوسط.

 

ربط آسيا الوسطى بالقوقاز وأوروبا: إحياء طريق الحرير

يمتد الطموح الجيو-اقتصادي ليشمل آسيا الوسطى والقوقاز، في ما يُعدّ إحياءً عصريًا لطريق الحرير التاريخي. ممرات جديدة عبر البحر الأسود وبحر قزوين يمكن أن تربط أوروبا بمناطق غنية بالموارد والاستثمارات المستقبلية. لكن هذا الطموح مشروط بتأمين الملاحة في البحر الأسود، وضمان الاستقرار الإقليمي في ظل التوترات المتعددة.

 

من الربط الجغرافي إلى التحالفات الاستراتيجية

التحول الحقيقي لا يكمن في إنشاء الممرات فقط، بل في بناء تحالفات متماسكة تقود هذا المشروع العالمي. وهنا تظهر ثلاث ركائز: “الرباعية” (Quad) بين الهند وأمريكا واليابان وأستراليا، ومشروع IMEC، و”الميثاق الأطلسي الجديد”. تسعى الولايات المتحدة إلى قيادة هذه المشاريع لضمان ترابط الأقاليم الحرة وخلق نظام اقتصادي-أمني عالمي بديل عن هيمنة القوى الاستبدادية.

 

نحو عالم متعدد الممرات… وموحد في القيم

التحول نحو عالم متصل لا يعني مجرد التوسع في خطوط التجارة أو مدّ سكك الحديد، بل هو مشروع قيمي قبل أن يكون جغرافيًا. الاندماج بين “الطريق الذهبي” (الهند-المتوسط)، و”الطريق الكهرماني” (شرق أوروبا)، و”طريق الحرير الجديد” (آسيا الوسطى) يهدف إلى تشكيل شبكة مترابطة من الاقتصادات الحرة والمجتمعات المفتوحة. إنه مشروع لإعادة ضبط العولمة على أسس أكثر عدالة وأمنًا، تتناسب مع تحديات القرن الحادي والعشرين.

أقرأ أيضا

اليابان وكوريا الجنوبية تتمسكان بالتفاوض بعد قرار ترامب تأجيل الرسوم:هامش ضيق وفرص محدوده

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى