من الخصومة إلى التحالف: كيف صالح جيف بيزوس دونالد ترامب لحماية إمبراطوريته؟

في مفاجأة هزّت الأوساط الاقتصادية والإعلامية الأمريكية، أعاد مؤسس أمازون ومالك واشنطن بوست، جيف بيزوس، رسم ملامح علاقته المتوترة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. بعد سنوات من العداء العلني والاتهامات المتبادلة، اختار بيزوس هذا العام نهجًا أكثر براغماتية، واضعًا المصالح فوق المواقف. هذا التحول لا يُعد مجرد مصالحة شخصية، بل يعكس التحالف غير المعلن بين رأس المال والإعلام والسلطة في الولايات المتحدة. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، بدا أن الملياردير الأكثر نفوذًا في وادي السيليكون قرر أن يطوي صفحة المواجهة ويفتح أخرى عنوانها “التهدئة الذكية”، حفاظًا على إمبراطوريته الممتدة من الفضاء إلى التجارة الإلكترونية.

من العداء إلى المصالحة: الجرح الذي أعادته السياسة
تعود جذور الخلاف إلى عام 2019 حين خسرت أمازون عقدًا ضخمًا مع وزارة الدفاع الأمريكية بقيمة 10 مليارات دولار، بعدما اتهم بيزوس ترامب بالتدخل لمنع فوز شركته. وردّ الأخير بسخرية علنية، واصفًا خصمه بـ“جيف بوزو”. مثّلت تلك الواقعة نقطة انكسار في علاقة المال بالسلطة، إذ أدرك بيزوس أن نفوذه الاقتصادي لا يحصّنه من تقلبات السياسة. وبعد انتخابات 2024 وعودة ترامب إلى الحكم، غلّب بيزوس منطق الحسابات على الانفعالات، مفضّلًا سياسة “خفض التوتر” لتأمين مصالحه أمام إدارة لا تتسامح مع المعارضين.

إعادة التموضع: من المواجهة إلى الاستثمار في العلاقة
اختار بيزوس أن يبدأ صفحة جديدة بخطوات رمزية ومباشرة. فقد تبرعت أمازون بمليون دولار للجنة تنصيب ترامب، ونقلت المراسم عبر Prime Video. ثم اشترت الشركة حقوق إنتاج سلسلة عن ميلانيا ترامب مقابل 40 مليون دولار، كما أضافت مواسم برنامج The Apprentice إلى منصتها، في إشارة إلى “تطبيع ثقافي” بين الجانبين. وفي الوقت ذاته، تدخّل بيزوس في خط واشنطن بوست التحريري، موجّهًا الجريدة إلى التركيز على الحريات الفردية واقتصاد السوق بدلًا من نقد الإدارة الجمهورية، ما عُدّ تراجعًا عن موقفها الليبرالي الصريح.

بين الخوف والبراغماتية: بيزوس ومعادلة البقاء
يرى مقربون من بيزوس أن تحوّله لم يكن انحيازًا لترامب بقدر ما كان محاولة لتجنّب خسائر محتملة. فالرجل يدير شركات تعتمد على عقود حكومية ضخمة، من أمازون ويب سيرفيسز إلى بلو أوريجن. في الوقت نفسه، تزايدت الضغوط من الديمقراطيين خلال عهد بايدن، خاصة بعد معارك هيئة التجارة الفيدرالية التي اتهمت أمازون بالاحتكار. أمام هذا المشهد، قرر بيزوس أن البقاء في منطقة وسطى هو الخيار الآمن، معتبرًا أن “العداء السياسي رفاهية لا يملكها من يقود إمبراطورية بتريليون دولار”.
بلو أوريجن: الرهان الفضائي الذي يفرض التوازن
في خلفية الصراع السياسي، تبقى بلو أوريجن، مشروع بيزوس الفضائي، العامل الأهم في معادلة علاقته بالبيت الأبيض. فالشركة تعتمد على عقود الدفاع والفضاء، وتخشى أي انحياز رئاسي لإيلون ماسك وسبيس إكس. ومع فوزها مطلع العام بعقد للمشاركة في مهمة القمر 2029 بعد إطلاق صاروخ “نيو غلين”، يسعى بيزوس إلى تثبيت موقعه كمنافس رئيسي دون إثارة غضب ترامب. فكل توتر سياسي قد يعني خسارة عقود بمليارات الدولارات، وهو ما يجعله أكثر ميلاً للتقارب لا للمواجهة.

إمبراطورية الإعلام: حين يخضع الخط التحريري لحسابات السوق
منذ استحواذه على واشنطن بوست عام 2013، تعامل بيزوس مع الصحيفة كأداة فكرية داعمة لمشروعه الاقتصادي. لكن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا في الاشتراكات وأزمة هوية داخل غرفة التحرير. يقول الكاتب ديفيد مارانيس: “لم تعد هذه هي الواشنطن بوست التي نعرفها.” فالتغييرات التحريرية التي فرضها المالك أثارت غضب الصحفيين الذين رأوا فيها رضوخًا للسلطة السياسية. ورغم ذلك، يصر بيزوس على أن هدفه “ترسيخ قيم السوق الحرة”، في وقت يرى كثيرون أن ما يحدث ليس سوى مقايضة ضمنية بين استقلال الصحافة ومكاسب الأعمال.
الدفء الاجتماعي: المصالحة تنتقل من المكتب إلى الصالون
لم يقتصر التقارب بين الرجلين على السياسة والاقتصاد. فقد ظهر بيزوس في مناسبات اجتماعية مع عائلة ترامب، واستضاف إيفانكا وجاريد كوشنر في منزله بواشنطن، بينما شوهدت خطيبته لورين سانشيز إلى جانب ميلانيا ترامب في فعاليات خيرية. هذه اللقاءات بدت رسالة ناعمة بأن زمن العداء انتهى. وفي تصريح لاحق، قال بيزوس عن ترامب: “إنه أكثر هدوءًا وثقة مما كان عليه في ولايته الأولى”، في تعبير يوحي بتقبّل واقعي لا إعجاب شخصي.

براغماتية الملياردير في زمن الاضطراب
تحول بيزوس من خصم شرس إلى شريك هادئ يعكس براعة في قراءة موازين القوة. فالرجل الذي كان يدافع عن “حرية الصحافة” أصبح اليوم يدافع عن “حرية السوق”. وبين من يرى في تصرفه خضوعًا ومن يراه ذكاءً، يظل المؤكد أن بيزوس اختار البقاء داخل اللعبة بدل الوقوف ضدها. في أمريكا التي تزداد انقسامًا، يبدو أن أقصر الطرق إلى النجاة تمر عبر الصفقات لا الشعارات، وأن المبدأ الأول في عالم الأعمال هو البقاء، مهما تبدّلت الوجوه في البيت الأبيض.