عرب وعالم

3 قرارات شكلت الأزمة.. خلل قاتل في تحالف الناتو

منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، دخلت العلاقات عبر الأطلسي مرحلة دقيقة وحساسة، إذ تصاعد الجدل مجددًا حول حجم الأعباء التي تتحملها الولايات المتحدة داخل حلف شمال الأطلسي “الناتو” في مقابل الشركاء الأوروبيين. ورغم توقيع اتفاقيات ووعود في مجالي الدفاع والتجارة، إلا أن الخلل البنيوي الذي يعانيه الحلف لم يُعالج بعد. فبحسب مجلة “فورن أفيرز”، جذور الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى قرارات تأسيسية مصيرية أضعفت التوازن بين الأمن والاقتصاد، وغيّرت أولويات واشنطن في نصف الكرة الغربي. واليوم، يقف الحلف أمام مفترق طرق يحتاج إلى إعادة صياغة حقيقية.

 

عبء ثقيل على أمريكا

 

تؤكد “فورن أفيرز” أن الولايات المتحدة تتحمل 16% من ميزانية الناتو السنوية، فضلًا عن الأعباء التشغيلية واللوجستية المرتبطة بأمن أوروبا، وهو ما يتجاوز دورها كعضو واحد بين 32 دولة. في المقابل، يواصل الاتحاد الأوروبي فرض قيود جمركية وتنظيمية تحد من وصول المنتجات والشركات الأمريكية إلى السوق الأوروبية، من الزراعة إلى التكنولوجيا. فور توليه منصبه، لم يتردد ترامب في توجيه رسائل مباشرة إلى الأوروبيين عبر نائبه جيه دي فانس ووزير دفاعه بيت هيجسيث، حيث شدد على أن واشنطن لن تواصل تخصيص مواردها الأساسية للدفاع عن أوروبا وحدها.

 

وعود محدودة ونجاحات وهمية

 

رغم إعلان الأوروبيين عن نية رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي بحلول 2035، ترى المجلة أن هذه الوعود ليست مضمونة التنفيذ، لأن القادة الحاليين لا يمكنهم إلزام الحكومات المقبلة. كما أن اتفاقيات التجارة الأخيرة لا تزال غامضة النتائج، إذ ترفض بروكسل تعديل اللوائح التي تعرقل عمل شركات التكنولوجيا الأمريكية. وترى المجلة أن ما تحقق حتى الآن مجرد نجاحات شكلية لا تكفي لإعادة التوازن، خاصة مع احتفاظ واشنطن بالمناصب القيادية داخل الحلف، ما يرسخ التبعية المؤسسية الأوروبية ويؤجل الحلول الجوهرية المطلوبة.

 

خيارات التأسيس المضللة

 

ترجع الأزمة الحالية، بحسب “فورن أفيرز”، إلى ثلاثة قرارات مصيرية اتخذت عند تأسيس الناتو. الأول، إعطاء الأولوية لأوروبا على حساب الأمريكتين. الثاني، إضفاء الطابع العسكري على العلاقة بدلًا من الاقتصادي. والثالث، دمج تحالف إقليمي محدود ضمن إطار عالمي أيديولوجي أوسع. هذه الخيارات، التي بدت ملائمة خلال الحرب الباردة، أفرزت سلبيات متزايدة مع مرور الوقت، إذ جعلت واشنطن مسؤولة عن التزامات تتجاوز قدراتها الاستراتيجية. ومع اتساع نطاق مهام الناتو خارج أوروبا الأطلسية، أصبح إصلاح الخلل البنيوي أكثر تعقيدًا وأبعد عن التوازن المنشود.

 

تحولات ما بعد الحرب

 

على مدار قرنين، تمسكت الولايات المتحدة بسياسة تركّز على نصف الكرة الغربي، من خطابات جورج واشنطن وجيمس مونرو إلى ميثاق ريو عام 1947. لكن الانضمام إلى الناتو عام 1949 شكّل انعطافًا تاريخيًا، إذ رأى صانعو القرار ضرورة دمج أوروبا في المجال الأمريكي لردع الاتحاد السوفيتي. هذا التحول جاء على حساب الأمريكتين، حيث تراجع الحضور الأمريكي في أمريكا اللاتينية لصالح الانخراط في أوروبا، وهو ما فتح المجال أمام قوى أخرى لتعزيز نفوذها. بذلك دفعت واشنطن ثمنًا استراتيجيًا طويل الأمد جراء تغيير بوصلتها بعيدًا عن محيطها التقليدي.

 

الاقتصاد مقابل الأمن 

 

جسدت خطة مارشال في البداية أولوية التعاون الاقتصادي، لكنها بقيت محدودة زمنيًا، فيما تحولت المسؤولية الأمنية الأوروبية إلى عبء أمريكي دائم. دبلوماسيون مثل جورج كينان حذروا منذ البداية من أن الناتو يمثل حلًا نفسيًا للأوروبيين أكثر منه ضرورة استراتيجية لواشنطن. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كان من المنطقي أن يتراجع الحلف، لكنه توسّع شرقًا وصولًا إلى وعود انضمام جورجيا وأوكرانيا، وهو ما أثار استياء روسيا. بالتوازي، ركز الاتحاد الأوروبي على بناء وحدته الاقتصادية، فيما أبقت واشنطن على بعد الحلف العسكري دون تغيير حقيقي في معادلة العلاقة.

 

إرث مناهضة الشيوعية

 

في بدايات الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة لتطويق النفوذ السوفيتي ببناء تحالفات عابرة للقارات مثل ANZUS وSEATO وCENTO، فيما أصبح الناتو الأداة المركزية في المواجهة. وبعد سقوط جدار برلين، لم تتراجع هذه الاستراتيجية، بل تحولت إلى رؤية جديدة تقوم على ثنائية الديمقراطيات مقابل الأنظمة الاستبدادية. في هذا السياق، استُخدم الناتو كوسيلة لترسيخ النفوذ الأمريكي عالميًا. واليوم، رغم عودة ترامب للبيت الأبيض، تحاول أوروبا توظيف التوتر مع روسيا والصين لضمان استمرار الوجود العسكري الأمريكي، ما يكشف عجزها عن بناء استقلالية استراتيجية حقيقية.

 

طريق التصحيح الممكن

 

ترى “فورن أفيرز” أن أمام إدارة ترامب فرصة لإعادة صياغة العلاقة عبر إعادة تركيز الناتو على أوروبا فقط ومنع توسعه مستقبلًا. كما تدعو المجلة إلى دفع الأوروبيين لتحمل مسؤولية أكبر عن أمنهم وتقليص الوجود العسكري الأمريكي في القارة، خصوصًا في ألمانيا وبولندا ورومانيا. بالتوازي، يمكن تحويل العلاقة إلى شراكة اقتصادية وتكنولوجية من خلال مؤسسات جديدة تدعم الذكاء الاصطناعي والصناعات الدوائية والمعادن النادرة والفضاء والأمن السيبراني. وتشدد على ضرورة تجنب أخطاء الماضي بعدم الانخراط المرهق في صراعات آسيا، لصياغة تحالف أكثر توازنًا وفاعلية.

اقرأ أيضاً

إسرائيل تفتح جبهة جديدة: الصين تتحول إلى الخطر الإستراتيجي الأكبر

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى