تخفيف الضوابط على تصدير الرقائق: خطأ استراتيجي أمريكي في توقيت حساس
خطأ استراتيجي أمريكي في توقيت حساس

في خضم سباق عالمي محتدم نحو الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي، اختارت الولايات المتحدة فجأة أن تخفف أحد أقوى أسلحتها الاقتصادية والتقنية ضد الصين. القرار الأخير بالسماح لشركة Nvidia باستئناف تصدير شرائحها المتطورة إلى بكين لا يبدو فقط متسرعًا، بل قد يُنظر إليه أيضًا كتنازل مجاني في منافسة تكنولوجية لا تقل أهمية عن سباق التسلح التقليدي. ففي لحظة يبدو فيها أن الضوابط المفروضة كانت تؤتي ثمارها بإبطاء تقدم الصين، يختار البيت الأبيض منح خصمه الأكبر فرصة لالتقاط أنفاسه.
قفزات الذكاء الاصطناعي الصيني تثير القلق الأمريكي
شهدت الأشهر الأخيرة تسارعًا مذهلًا في قدرات الصين على إنتاج نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة، بلغت حد منافسة – بل وتجاوز – ما تنتجه الشركات الأمريكية. ففي يوليو فقط، طرحت ثلاث مختبرات صينية نماذج جديدة أثارت الإعجاب في الأوساط التقنية العالمية. هذه الإنجازات تؤكد أن السباق لم يعد تقنيًا فقط، بل أصبح ذا أبعاد جيوسياسية واضحة: من يحقق التفوق أولًا في مجال الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، قد يفرض هيمنته الاقتصادية والعسكرية لعقود.
الحظر كان ناجحًا.. فلماذا التراجع الآن؟
في أبريل الماضي، فرضت إدارة ترامب حظرًا على تصدير رقاقات H20 من إنتاج شركة Nvidia إلى الصين. وقد تبيّن لاحقًا أن هذه الرقاقات، التي صُممت أصلاً للالتفاف على قيود سابقة، كانت ممتازة لتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي (وليس لتدريبها فقط). بعد فرض الحظر، عانت المختبرات الصينية من نقص في القدرة الحوسبية اللازمة لتشغيل نماذجها التجارية، واضطرت للجوء إلى حلول بديلة أقل كفاءة، كاستضافة الخدمات في الخارج أو الاعتماد على كميات محدودة من الرقائق المحلية.
الأثر كان واضحًا: الحظر أبطأ التوسع التجاري الصيني في الذكاء الاصطناعي، وخلق ضغطًا واضحًا على قدرة الشركات الصينية على تقديم خدماتها في السوق. لذلك، فإن التراجع عن هذه السياسة في هذا التوقيت الدقيق يبدو أقرب إلى انتكاسة ذاتية من كونه تحولًا محسوبًا.
منطق البيت الأبيض: موازنة الأسواق أم مكافأة الضغط؟
جاء التراجع بعد لقاء جمع الرئيس دونالد ترامب برئيس شركة Nvidia، جنسن هوانغ. وفي سياق تعتبر فيه Nvidia الشركة الأعلى قيمة في العالم وتؤثر في مؤشرات الأسواق بشكل مباشر، يصعب تجاهل أن القرار جاء أيضًا لإرضاء السوق وليس لحسابات أمن قومي بحتة. بالنسبة لرئيس يربط شعبيته بمؤشر S&P 500، تبدو مصلحة الأسواق وكأنها تفوقت على اعتبارات استراتيجية أوسع.
الصين لن تنتظر إلى الأبد: البدائل تتشكل ببطء ولكن بثبات
أحد الحجج المضادة للحظر تقول إن منع الرقائق الأمريكية عن الصين سيعجّل بنمو صناعة الشرائح الصينية. وهو أمر صحيح جزئيًا. فالحظر بالفعل سرّع من استثمار بكين في تطوير بدائل محلية. ومع ذلك، فإن تعقيد سلسلة تصنيع الرقائق المتقدمة يجعل اللحاق بأمريكا أو تايوان في هذا المجال أمرًا بالغ الصعوبة، وقد يستغرق سنوات طويلة.
السؤال هو: هل من الأفضل إبطاء البرمجيات الصينية اليوم – حتى لو تطورت العتاد لاحقًا – أم العكس؟ المقال يؤكد أن الخيار الأول هو الأكثر منطقية، فالتقدم في البرمجيات هو العامل الحاسم في سباق الذكاء الفائق، وربما يتم حسم المعركة قبل أن تجهز الصين سلاسل توريدها بالكامل.
الاستراتيجية الأمريكية: الاعتماد مقابل الاستقلال
يرى بعض مستشاري ترامب في الذكاء الاصطناعي، وعلى رأسهم ديفيد ساكس، أن السماح للصين بالاعتماد على رقائق Nvidia قد يجعلها رهينة للنظام التقني الأمريكي، ويؤخر تطوير بدائل وطنية. من هذا المنظور، تصبح سياسة “إدمان التكنولوجيا الأمريكية” أداة ردع طويلة الأجل.
لكن هذا التحليل يتجاهل أن قدرة الصين على التكيّف والتحايل على القيود أثبتت مرارًا أنها فعالة. ومع مرور الوقت، سيتعاظم الضغط المحلي على بكين لتقليل الاعتماد على الخارج، ما قد يحوّل هذا “الإدمان” إلى محفز للاستقلال الصناعي التام.
سباق الذكاء الخارق: من يسبق من إلى 2030؟
إذا صدقت التقديرات القائلة بأن العالم قد يشهد ظهور ذكاء صناعي يتفوق على البشر في جميع المهام الإدراكية بحلول 2030، فإن السنوات الخمس المقبلة ستكون حاسمة. في هذا السياق، يصبح دعم التقدم المحلي في أمريكا، ولو على حساب أرباح Nvidia الآنية، ضرورة استراتيجية. أي تأخير في التقدم الصيني يمنح الولايات المتحدة هامش مناورة أكبر في تطوير نماذج أكثر تقدمًا ونشرها تجاريًا قبل أن يفعل منافسها ذلك.
الرقائق هي كعب أخيل الصيني
تمتلك الصين كل عناصر القوة في مجال الذكاء الاصطناعي: البيانات، العقول، رأس المال، والبنية التحتية الطاقوية. ما تفتقر إليه هو القدرة على إنتاج رقائق منافسة. وبالتالي، فإن تسهيل وصولها إلى تلك الرقائق – طوعًا – يبدو قرارًا ساذجًا في سياق المنافسة الحالية. الحفاظ على هذا النقص البنيوي في قدرات العدو الجيوسياسي هو جزء من أي سياسة ردع ناجحة.
من يربح الوقت يربح المعركة
قرار إدارة ترامب بتخفيف الضوابط على تصدير رقائق Nvidia H20 إلى الصين ليس مجرد تنازل اقتصادي، بل مجازفة استراتيجية. وفي سباق الزمن نحو الذكاء الخارق، قد يكون من يكسب الوقت الآن هو من يرسم ملامح القوة العالمية لعقود مقبلة. أمريكا لا يمكنها أن تفرط بأدواتها في منتصف الطريق.