تقارير التسلح

تركيا ترفع موازنة الدفاع لـ2026.. أولوية الأمن تتفوق على الرفاه

رفعت الحكومة التركية موازنتها الدفاعية لعام 2026 إلى نحو 51.4 مليار دولار، في خطوة تعكس استمرار هيمنة الهاجس الأمني على سياساتها الاقتصادية. ويمثل هذا المبلغ ما يقارب 11.4% من إجمالي الإنفاق العام، مع تخصيص 2.155 تريليون ليرة تركية للقطاعات الدفاعية والأمنية. وبحسب محللين، فإن هذا الارتفاع ليس مجرد رقم مالي، بل هو مؤشر على توجه استراتيجي يهدف إلى ترسيخ موقع تركيا كقوة عسكرية إقليمية قادرة على إدارة عمليات متعددة عبر الحدود. كما يعكس القرار طموح أنقرة في تحديث منظومتها الدفاعية بما يتناسب مع التحولات الجيوسياسية المحيطة، خصوصًا في سوريا والعراق والبحر المتوسط.

 

تفاصيل الإنفاق.. زيادات غير مسبوقة في الدفاع والأمن

 

توزعت الاعتمادات المالية في مشروع الموازنة بين وزارة الدفاع والمشتريات العسكرية بنحو 1.202 تريليون ليرة تركية (ما يعادل 28.7 مليار دولار)، وبين أجهزة إنفاذ القانون مثل الشرطة والجندرمة وخفر السواحل، التي خُصص لها ما يقارب 953 مليار ليرة (22.7 مليار دولار). وأوضح نائب الرئيس جيفدت يلماز أمام البرلمان أن الزيادة في مخصصات الدفاع والأمن تبلغ 34% مقارنة بعام 2025، وهي من أعلى النسب المسجلة في تاريخ الموازنات التركية الحديثة. وتقول الحكومة إن هذه الأرقام تجسد التزامها بتحقيق توازن بين الردع العسكري وحماية الأمن الداخلي، في وقت تواجه فيه البلاد تحديات إقليمية ومخاطر أمنية متزايدة.

 

دوافع التوسع.. رواتب وتسليح وعمليات عابرة للحدود

 

ترجع أنقرة رفع الإنفاق العسكري إلى أربعة عوامل رئيسية تشمل ارتفاع رواتب الجنود والضباط، وتوسيع برامج التسلح المرتبطة بالطائرات المسيّرة والصواريخ الموجهة، ومتطلبات الصيانة والإمداد للعمليات العسكرية المستمرة في شمال سوريا وشمال العراق، بالإضافة إلى الحاجة الملحة لتحديث المعدات والأنظمة الدفاعية. وتعتبر الحكومة أن هذه الزيادة ضرورة استراتيجية في ظل التطورات المتسارعة بالمنطقة، بينما يرى مراقبون أن الخطوة تندرج في إطار سياسة الردع التي تعتمدها تركيا منذ أعوام لتأكيد نفوذها العسكري وتأمين مصالحها الحيوية. ويُتوقع أن يؤدي هذا التوسع إلى تعزيز القدرات القتالية التركية على المدى المتوسط، مع زيادة الكفاءة التشغيلية في المهام الخارجية.

 

تمويلات موازية خارج الموازنة الرسمية

 

رغم الأرقام الضخمة المدرجة في مشروع الموازنة، إلا أنها لا تعكس إجمالي الإنفاق الدفاعي الفعلي. فتركيا تعتمد على آليات تمويل موازية أبرزها صندوق دعم الصناعة الدفاعية SSDF، الذي يموّل مشاريع التطوير والتصنيع العسكري بعيدًا عن الموازنة العامة. ويسمح هذا الصندوق بمرونة مالية أوسع للحكومة في دعم الابتكار الدفاعي وتمويل العقود الاستراتيجية، لكنه يثير في المقابل مخاوف من تراجع الشفافية وصعوبة الرقابة البرلمانية. ويرى اقتصاديون أن تضخم هذا النمط من الإنفاق “غير المعلن” قد يؤدي إلى زيادة الالتزامات المالية المستقبلية للدولة، ويخلق ثغرات في تقييم الإنفاق العام الحقيقي على الدفاع.

 

الصناعة المحلية.. ركيزة الاكتفاء الدفاعي

 

تواصل أنقرة المراهنة على تعزيز قدرات الصناعة العسكرية المحلية لتقليل اعتمادها على الموردين الأجانب. وتتباهى الحكومة بإنجازات شركات مثل Baykar المنتجة للطائرات المسيّرة القتالية، إلى جانب التوسع في تصنيع الذخائر الموجهة والمركبات المدرعة. ويُنظر إلى هذا التوجه باعتباره خيارًا استراتيجيًا يسهم في تأمين سلاسل التوريد الدفاعية وتوفير فرص عمل جديدة داخل البلاد. كما يشكل دعم التصنيع المحلي أداة دبلوماسية ناعمة لتركيا، إذ تسعى من خلال صادراتها الدفاعية إلى تعزيز حضورها في أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا. وفي ظل استمرار العقوبات الغربية الجزئية، يبدو أن أنقرة ماضية في سياسة “الاكتفاء الدفاعي” كأحد أهم مرتكزات أمنها القومي.

 

ضغوط اقتصادية واجتماعية تلوح في الأفق

 

ترافق الزيادة في الإنفاق العسكري مع تحديات اقتصادية داخلية تتمثل في التضخم المرتفع وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين. ورغم أن التعليم لا يزال يحتل المرتبة الأولى في الموازنة بمبلغ يقارب 2.89 تريليون ليرة تركية، إلا أن تصاعد مخصصات الدفاع يثير جدلًا واسعًا حول توازن الأولويات بين الأمن والرفاه الاجتماعي. ويرى معارضون أن الإفراط في الإنفاق العسكري قد يأتي على حساب الخدمات العامة مثل الصحة والدعم الاجتماعي، في حين تؤكد الحكومة أن الأمن والاستقرار الاقتصادي وجهان لعملة واحدة. وتبقى المخاوف قائمة من أن يؤدي الاعتماد على التمويلات الخارجية إلى ارتفاع الديون وضعف الشفافية المالية على المدى المتوسط.

 

أبعاد سياسية واستراتيجية للموازنة الجديدة

 

يرى محللون أن أنقرة تسعى من خلال هذه الموازنة إلى تعزيز الردع الإقليمي وتوسيع قدرتها على التدخل في الملفات الأمنية المحيطة بها، بما في ذلك الحدود الجنوبية والبحر المتوسط والبلقان. كما يمنحها الإنفاق الدفاعي المرتفع نفوذًا إضافيًا داخل حلف الناتو وفي علاقاتها مع واشنطن وموسكو على السواء. وتؤكد الحكومة أن هذه الخطوة ليست تصعيدية بل “تحوطية”، لضمان جاهزية الدولة في مواجهة التهديدات المتنامية. ومع ذلك، يُتوقع أن تثير هذه السياسة مزيدًا من النقاش داخل تركيا حول الكلفة الاجتماعية لسياسة “الأمن أولًا”، ومدى تأثيرها على الاستقرار الاقتصادي في العامين المقبلين.

 

مداولات برلمانية وجدول زمني للإقرار

 

تتواصل حاليًا المداولات داخل الجمعية الوطنية الكبرى لمناقشة تفاصيل الموازنة ومراجعة بنودها المقترحة قبل إقرارها النهائي بنهاية العام. ومن المتوقع أن تقدم أحزاب المعارضة تعديلات تطالب بتقليص بعض المخصصات الدفاعية لصالح قطاعات مدنية كالصحة والتعليم. لكن المؤشرات السياسية الحالية ترجّح تمرير المشروع بصيغته الأصلية نظرًا لأغلبية التحالف الحاكم في البرلمان، ما يعني أن عام 2026 سيكون بداية مرحلة جديدة من تعزيز القوة الصلبة لتركيا على حساب أولويات الإنفاق الاجتماعي التقليدية.

اقرأ أيضاً

«المال مقابل النفوذ».. فايننشال تايمز تكشف كيف كافأت إدارة ترامب كبار مانحيه

رحمة حسين

رحمة حسين صحفية ومترجمة لغة فرنسية، تخرجت في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة عين شمس. تعمل في مجال الصحافة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب عملها في الترجمة من الفرنسية إلى العربية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولها كتابات مؤثرة في هذا المجال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى