توثيق دمار السودان بعدسة مصور شاب يحوّل الألم إلى شهادة بصرية مؤثرة
صور ما قبل وبعد الحرب تكشف فقدان الحياة اليومية وذاكرة المكان

عندما عاد مصعب أبو شامة إلى منزله في شرق أم درمان بعد مرور عام على اندلاع الحرب في السودان، لم يتمكن من التعرف عليه. فذلك المبنى المؤلف من ثلاثة طوابق، الذي كان يأوي أسرته الممتدة، تحوّل إلى أنقاض مثقوبة برصاص البنادق، وقد تهدّمت جدرانه وتناثرت حوله بقايا سيارات محترقة، بينما غطّى الركام المكان بأكمله. لا ماء، لا كهرباء، ولا أثر لحياة كانت تنبض في أركانه.
يروي أبو شامة، ذو الـ27 عامًا: “عندما عدنا، لم نجد شيئًا، كل شيء نُهب – الأثاث، المقتنيات، وحتى الملابس”.
السودان في قلب المأساة الإنسانية
يدخل السودان عامه الثالث من الحرب، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية على مستوى العالم. تشير التقديرات إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى، فيما يواجه مئات الآلاف خطر المجاعة، وقد بلغ عدد النازحين نحو 13 مليون شخص، بينهم 4 ملايين اضطروا لمغادرة البلاد.
من متطوع إلى شاهد على الحرب
في مايو 2023، ومع احتدام المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أُجبرت عائلة أبو شامة على مغادرة منزلها. استقروا مؤقتًا في شمال أم درمان، ثم غادر أغلب أقاربه إلى الخارج، وبقي هو لرعاية والده المسنّ.
تحوّل منزلهم لاحقًا إلى قاعدة عسكرية، وأصبحت المنطقة بأكملها مسرحًا للمعارك. لجأ أبو شامة إلى المناطق الآمنة نسبيًا، حيث بدأ يشارك في أنشطة تطوعية لدعم المستشفيات ومطابخ الطوارئ. وحين عاد إلى منزله في مارس 2024، واجه مشهدًا من الدمار تجاوز كل توقع.
الصور كأدوات لحفظ الذاكرة
لم تكن الخسارة مادية فحسب، بل امتدت إلى الذاكرة والمشاعر. يقول أبو شامة: “ذلك البيت كان يمثل لي كل شيء، كل لحظة من الفرح أو الحزن كانت فيه، والآن بات ركامًا”.
تحوّلت عدسته إلى وسيلة لرواية الحنين والفقد. فبعد أن بدأ التصوير كهواية عام 2019 خلال احتجاجات إسقاط عمر البشير، أصبحت صوره لاحقًا توثيقًا حيًا لحياة السودانيين في ظل الحرب.
مشروع “تدوين”: توثيق العادي في قلب الاستثناء
أطلق أبو شامة مشروعه الأول “تدوين” في عام 2023، ضمن برنامج التصوير الوثائقي العربي. ركّز على التقاط اللحظات اليومية وسط أجواء الحرب، كطفل يلعب بينما يتصاعد الدخان، أو رجل مسنّ يشاهد الصلاة على التلفاز وسط أصوات القصف.
ابتكر أسلوب الدمج البصري بين الصور ما قبل الحرب وبعدها، لرواية قصة الانهيار. من أبرزها صورة لجنازة جده في ساحة المنزل تقابلها صورة للمكان ذاته مدمّرًا، وأخرى لرجال يلعبون الكرة في شارع نابض بالحياة تحوّل إلى شارع مهجور تغزوه الحطام.
صورة من زفاف وسط الرصاص تفوز عالميًا
من أبرز صوره أيضًا لقطة التُقطت بهاتفه لعريس يحمل مسدسًا أثناء زفافه في أم درمان. رغم أن المناسبة كانت سعيدة، إلا أن صوت الرصاص والانفجارات شكّل خلفيتها. يقول: “كنا مضطرين للإسراع، فالوضع كان خطرًا”.
فازت الصورة بجائزة في مسابقة “وورلد برس فوتو” في أمستردام، ولاقت صدى عالميًا. ويرى محمد سمجي، مدير “جلف فوتو بلس”، أن تميز أعمال أبو شامة يكمن في صدقها الإنساني، لا في استعراضها للدمار فقط.
بين الغربة والحنين: فنان يحمل الذاكرة
اليوم، يدرس أبو شامة الفنون البصرية في نيويورك، لكنه يعيش صراعًا داخليًا بين الحنين لوطنه والشعور بالعجز. يقول: “لن يعود شيء كما كان، لكن لا بد أن نحاول استعادة ما يمكن إنقاذه. فهذه ذاكرتنا”.
ويختم بكلمات مؤثرة تعبّر عن عمق المأساة: “أرجو فقط أن ينتهي هذا الكابوس. فنحن نخسر جزءًا من هويتنا كل يوم”.