التابستري البابوية: من رمز الغزو الي جسر للمصالحة بعد بريكست

بعد أكثر من تسعة قرون على مغادرتها إنجلترا، تستعد “التابستري البايوية” للعودة إلى لندن في سبتمبر 2026، حاملة معها مزيجًا من التاريخ والفن والسياسة. هذه القطعة النادرة، التي يبلغ طولها 70 مترًا، لم تكن مجرد تحفة فنية تسرد تفاصيل الغزو النورماني لإنجلترا عام 1066، بل تحولت على مر العصور إلى أداة دعاية سياسية وأيقونة ثقافية تستدعي مشاعر الفخر أو الإذلال حسب زاوية النظر. واليوم، يأتي قرار إعارتها للمتحف البريطاني كجزء من مسار مصالحة رمزية بين بريطانيا وفرنسا بعد سنوات من التوترات التي خلفها خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
رحلة معقدة بين السياسة والثقافة
لم يكن الوصول إلى هذا الاتفاق أمرًا سهلًا، إذ تعثر المشروع الذي طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لأول مرة عام 2018 أمام رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك تيريزا ماي، بسبب معارضة داخلية فرنسية، وتردد سياسي، وإغلاق المتاحف خلال الجائحة. لكن عام 2025 شهد إحياء المفاوضات في ظل تحسن العلاقات الثنائية وتعاون أمني ودبلوماسي في ملفات حساسة مثل أوكرانيا وغزة والهجرة غير الشرعية. قاد الحوار خلف الكواليس وزراء الثقافة وكبار مسؤولي المتاحف، وسط سرية تامة وخلافات حول تكاليف النقل وشروط العرض.
شروط متبادلة وتنازلات محسوبة
أصرت فرنسا على أن تتزامن إعارة التابستري مع عرض قطع أثرية بريطانية نادرة في متاحفها، من بينها كنوز “ساتون هو” الشهيرة وقطع “شطرنج لويس” التي تعود للقرون الوسطى. أما المقترحات الفرنسية الأكثر جرأة، مثل المطالبة بحجر رشيد، فقد ووجهت برفض بريطاني قاطع لأسباب تاريخية وحساسية دبلوماسية. في المقابل، تم التوافق على أن تتحمل بريطانيا تكاليف تأمين وعرض التابستري، بينما بقي موضوع منح الفرنسيين دخولًا مجانيًا للمتحف في لندن خارج الاتفاق النهائي، مع التركيز بدلًا من ذلك على إتاحة المشاهدة لعدد أكبر من الأطفال.
التحديات التقنية وخطر نقل التحفة
يمثل نقل التابستري من بايو إلى لندن تحديًا تقنيًا ضخمًا، نظرًا لعمرها وحساسيتها البالغة. تقرير علمي صدر عام 2020 كشف عن آلاف البقع والفجوات والتمزقات غير المستقرة، مما يجعل أي حركة محفوفة بالمخاطر. ولهذا، وضعت فرق من المهندسين وخبراء النسيج خطة دقيقة تتضمن اختبارات تجريبية، واستخدام شاشة معدنية خاصة قابلة للطي لحمل القطعة، وتجنب تعليقها في العرض لتفادي الإجهاد غير المتساوي على القماش. في المتحف البريطاني، ستُعرض على طاولات مائلة طويلة، ما يتيح رؤية أوضح ويحافظ على سلامتها.
رمزية سياسية تتجاوز الفن
بالنسبة لماكرون والملك تشارلز الثالث ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، فإن إعارة التابستري ليست مجرد حدث ثقافي، بل رسالة سياسية قوية تؤكد أن الروابط بين البلدين أعمق من الخلافات التي فجرتها سنوات بريكست. يشبه كثيرون هذه الخطوة بقرار شارل ديغول إرسال لوحة “الموناليزا” إلى الولايات المتحدة عام 1963 رغم اعتراض الخبراء، في مثال بارز على توظيف التراث كأداة دبلوماسية. بالنسبة للبريطانيين، تمثل هذه العودة المؤقتة للتابستري “عودة إلى الوطن” لقصة تاريخية محفورة في الذاكرة الوطنية.
اقرا ايضا
الهند وباكستان: صراع السماء بين التفوق العددي والتكتيك السريع