الجغرافيا الاقتصادية الجديدة: كيف يهدد ترامب والنظام العالمي بفكر الهيمنة المالية
راي داليو عبر كتابه: السياسة باتت تحدد مصير المال لا العكس

في يناير 2008، وأثناء منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، سلّمني فريق راي داليو، مؤسس صندوق بريدجووتر العملاق، تقريرًا سميكًا يشبه الكتاب المقدس. كان يحوي رؤيته لدورات الائتمان. تجاهلتُ التقرير وقتها، لكن بعد أشهر، اجتاحت الأزمة المالية للعالم، وظهر داليو كأحد أبرز من تنبأوا بها.
بعد مرور 17 عامًا، يعود داليو لتحذير جديد عبر كتابه “كيف تُفلس الدول”، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة تُخاطر بأزمة مالية جديدة ما لم تبدأ بخفض ديونها البالغة 36 تريليون دولار. لكن داليو اليوم لم يعد يدرس فقط الاقتصاد، بل أيضًا الجغرافيا السياسية.
من المال إلى الجيوسياسة: انقلاب في معايير التحليل
في السابق، ركّز داليو على دورات الدين والنمو. أما اليوم، فإنه يربط السياسة والاقتصاد ببعضهما بصورة غير مسبوقة. يرى أن صعود النزعة القومية في الداخل الأمريكي، والمخاوف الجيوسياسية بالخارج، تُسهم في انفلات الإنفاق وعجز الدولة عن الإصلاح المالي. “السياسة باتت تُحدد مصير المال، لا العكس”، يقول.
صعود مفهوم الجغرافيا الاقتصادية والجيو-مالية
يعود مفهوم “الجغرافيا الاقتصادية” للواجهة، مشيرًا إلى استخدام الأدوات الاقتصادية كوسيلة للصراع الجيوسياسي. الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب هو خير مثال، حيث يلوّح بالرسوم الجمركية ضد أوروبا، ويحظر شراء الأراضي الأمريكية من قبل الصين، ويستخدم سلاح العملة كسلاح ردع.
تحوّل في طبيعة العلاقة بين الاقتصاد والأمن
لم يعد الاقتصاد منفصلًا عن الأمن القومي. تقول دوائر الأمن القومي الأمريكية والبريطانية إن الاقتصاد بات جزءًا لا يتجزأ من السياسات الأمنية، وإنّ اجتماعات الحكومات والشركات الكبرى تدور اليوم حول هذا الترابط المتزايد بين التجارة والدفاع.
الصين في قلب المشهد: فخ ثيوسيديديس يعود من جديد
يرى محللون أن ما يحدث هو نسخة حديثة من فخ ثيوسيديديس: قوة مهيمنة (الولايات المتحدة) تواجه صعود قوة جديدة (الصين)، مما يدفع بالعالم نحو صراع محتوم. وتستخدم بكين بدورها أدوات جيو-اقتصادية، مثل التحكم في صادرات المعادن النادرة.
من العولمة إلى الشعبوية: تقلّبات المائة عام الأخيرة
منذ عام 1900، مرّ العالم بتحولات فكرية متكررة. فبعد عصر العولمة ما قبل الحرب العالمية الأولى، دخلنا في مرحلة قومية ثم عاد الاقتصاد الدولي للنمو بعد 1945، لتصعد النيوليبرالية في الثمانينيات، قبل أن تشهد تراجعًا كبيرًا بعد 2008.
النيوليبرالية تتهاوى… وترامب يقود البديل الفوضوي
يُظهر ترامب، الرئيس الحالي، رفضًا واضحًا لمبادئ النيوليبرالية، مُفضّلًا الحمائية والانكفاء القومي. وبدلاً من ترك الأسواق تعمل بحرية، يستخدم الدولة لمعاقبة المنافسين والتحكم في حركة رؤوس الأموال، حتى أنه طرح ضرائب على استثمارات الصين، وقيودًا على استخدام الدولار.
الخطة غير المعلنة: مناورات فوضوية لأجندة جيوسياسية
قد يبدو أن ترامب يتصرف عشوائيًا، لكن هناك نمطًا عامًا في سلوك إدارته: ضرب الاقتصاد العالمي لإعادة تشكيله بما يخدم الهيمنة الأمريكية. خطط مثل فرض رسوم على الحلفاء، أو إجبار الدول تحت المظلة العسكرية الأمريكية على شراء سندات الخزانة، تنتمي إلى هذا الفكر.
الهيمنة في عصر التداخل: من يملك سلاسل التوريد يملك القوة
مراكز بحثية مثل GCAP تشير إلى أن الصين تهيمن على الصناعة من خلال سيطرتها على المواد الخام، بينما تسيطر أمريكا على التمويل عبر الدولار. وتحاول واشنطن الآن حماية هذه الهيمنة عبر سياسات الردع الاقتصادي ومنع التحوّل نحو عملات بديلة.
عودة أدبيات الحرب الاقتصادية: قراءة في كتيّب من 1938
في بريطانيا، عاد بعض مستشاري الأمن القومي لقراءة كتيب الحرب الاقتصادية الصادر عام 1938، في محاولة لفهم كيف يمكن التصدي لقوى مثل روسيا أو الصين في سياق عالمي متغير، حيث لم تعد الحرب العسكرية هي الساحة الوحيدة للصراع.
الاقتصاد كأداة للسيادة: دور الشركات في زمن الدولة القوية
حتى فكرة “الاهتمام بالمساهمين فقط” لم تعد مقبولة، فالاتجاه الحالي -حتى من اليمين- يُطالب الشركات بالولاء للقيم الوطنية ومصالح الأمن القومي، لا فقط الأرباح. وهكذا تتقاطع الجغرافيا السياسية مع الاستراتيجية الاقتصادية في كل قرار.
هل ستدوم حقبة ترامب الجيو-اقتصادية؟
يرى البعض أن هذه المرحلة مؤقتة، وستنتهي برحيل ترامب. لكن داليو يحذّر: الأمر أعمق من مجرد شخص، إنها دورة سياسية-مالية-جيوسياسية مشابهة لما حدث في انهيار إمبراطوريات سابقة. والمشكلة أن الجميع مشغول بالجدل، فيما القارب يتجه نحو الصخور.
الخلاصة: السياسة تسمم بئر الاقتصاد
التحليل العقلاني لم يعد كافيًا لفهم مسار الأسواق. فكما أفسدت السياسة أدوات داليو القديمة، فإن خطر الجيوسياسة يهدد الاستقرار الاقتصادي العالمي بأكمله. الجغرافيا الاقتصادية ليست مجرد ظاهرة، بل خطر استراتيجي يُعيد رسم خريطة العالم.