عندما يصبح الأداء بصمة ... رحلة فنان لا يشيخ.
بقلم جمال عبد الناصر: تأملات في مسيرة فنية صنعت من الموهبة خريطة، ومن الصدق بوصلة لا تنحرف.

في حياة كل أمة، هناك فنان لا يُقاس بالسنين التي عاشها، بل باللحظات التي عاشها الناس من خلاله. فنان لا يُعد عمره بعدد الأدوار، بل بعمق الأثر. وعندما أقول “فنان لا يشيخ”، فإنني لا أتحدث عن ملامح وجهه، ولا عن عدد متابعيه على الشاشات، بل عن ذلك الضوء الذي يشتعل في حضوره مهما طال الغياب، ويُشبه نجمة في سماء لا تنطفئ.
الأداء…عندما يتحوّل إلى هوية
هناك من يتعلّم التمثيل، وهناك من يُدرس التمثيل، وهناك من يُؤدي بإتقانْ لكن قلة قليلة فقط تجعلنا نُصدق أن الأداء ليس مجرد مهنة، بل طبيعة ثانية تسكن الروح.
هذا الفنان لم يكن يوماً “يمثل” بالمعنى التقليدي بل كان يعيش كل شخصية كأنها قضيته الخاصة. لم يحتج إلى أن يُبالغ أو يصرخ أو يلفت النظر. كان الصمت في أدائه أكثر بلاغة من ألف كلمة. وكانت نظرته وحدها كفيلة بأن تختصر فصولاً من الألم أو الانكسار أو الفرح.
من مشهد إلى حالة..ومن حالة إلى مدرسة
كل فنان يمكن أن يقدم دوراً جيداً، لكن القليلون فقط من يحولون الدور إلى حالة. وحين تصبح الحالة مدرسة، فإننا نتحدث عن بصمة لا تتكرر. هذا الفنان لم يترك فقط إرثاً من الأعمال، بل ترك خلفه طريقة تفكير، وشكل أداء، ومدرسة كاملة تشبهه في النضج والبساطة والعمق.
ولعلّ من يتأمل بداياته يدرك أن نجاحه لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة رحلة شاقة من البحث والاختيار والانحياز للجودة على حساب الظهور. لم يكن متسرعاً في الظهور، بل صبوراً في بناء ذاته، دوراً بعد دور، ومشهداً بعد مشهد.
الزمن حليف من يُخلص للفن
مع تقدم السنوات، يغيب البعض ويتراجع آخرون، ويصير الجمهور أكثر قسوة في المقارنة. لكن المدهش أن هذا الفنان ظلّ في صعود، بل صار أكثر جاذبية كلما نضج أكثر. لم يتجمّل ولم يركض وراء ما هو “ترند” بل احترف فن البقاء دون أن يفقد نفسه.
الفن ليس وهجاً… بل نور داخلي
ما يجعل هذا الفنان مختلفاً ليس فقط أنه موهوب، بل لأنه صاحب رؤية. ولم يكن يبحث عن الشهرة، بل عن الحقيقة في كل شخصية. يتقمص ولا يتصنّع ، يتقن ولا يستعرض، يشعر قبل أن ينطق، ويترك في كل عمل شيئاً عن روحه.
لماذا لا يشيخ هذا الفنان؟
لأنه ببساطة لا يعيش في زمنٍ واحد، بل ينتقل بين مراحل عمره كما ينتقل بين أدوراه: بخفة وبوعي، وبصمت لا يخلو من الرسالة لأنه لم يعتمد يوماً على الشكل، بل على الجوهر، لم يركن إلى نجاح قديم، بل ظلّ يُغامر، ويُجرب، ويكتشف ذاته من جديد.
وهو فنان لا يشيخ لأن في داخله طفلاً لا يكفّ عن الحلم، وحكيماً لا يتخلى عن التأمل، وإنساناً يرى الفن كوسيلة لفهم الحياة، لا فقط للتسلية.
في زمن تُصنع فيه النجومية أحياناً بمقطع قصير أو حملة ترويج، يظلّ هذا الفنان أيقونة من زمن مختلف، زمن لم يكن فيه الضوء هدفاً، بل نتيجة لرحلة طويلة من الإخلاص، والتفاني، واحترام الجمهور.
هو فنان لا يشيخ لأن كل لحظة على الشاشة تشبه مرآة صادقة تعكس أعمارنا وأحلامنا وهشاشتنا، ونحن نحبه، لأننا نحن في أدائه ما نبحث عنه في الحياة: الصدق.